وهي مدينة واسعة الأرجاء، كثيرة الضياع، ولها مرسىّ مأمون.
وهي في عصرنا قفل بلاد الساحل، وقصبة ما فيه من الحصون والمعاقل، قد تقدم لنا فتحها عند ذكرنا صُور.
ثم قال البلاذري - بعد الكلام الذي أوردناه هناك -: " لما كانت سنة تسع وأربعين، خرجت الروم إلى السواحل وكانت الصناعة بمصر فقط. فأمر معاوية بن أبي سفيان بجمع الصناع والنجارين فجمعوا، ورتبهم في عكا، وعمل بها دار الصناعة، فلما ولي هشام بن عبد الملك نقل الصناعة إلى صور.
ثم لما كانت سنة سبع وأربعين ومائتين، أمر المتوكل بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل، وشحناها بالمقاتلة ".
ولم تزل في يد من يلي جُند الأردن - على ما قدمناه من العذر في الإجماع - إلى أن ملك المصريون، وأجروا البلاد الساحلية، على القاعدة التي حكيناها عنهم.
فلما كانت سنة أربع وستين وأربعمائة، قصدها أتسز بن أوق التركي، فملكها، فخرج إليها أمير الجيوش بدر المستنصري، من مصر، في سنة خمس، فحاصرها حتى استولى عليها، وأخرج نُواب أتسز منها، وأقام بها والياً عليها الى سنة ست وستين.
فاستدعاه المستنصر إلى مصر، وولاه تدبير دولته، فولى فيه من قبله، وترك أمواله وحريمه فيها، فسيَّر أتسزُ منكلي التركي، فحاصرها حتى افتتحها، وقتل الوالي الذي كان بها، وأحسن إلى حريم أمير الجيوش، ولم يتعرض لماله.
فلما ملكها سير أتسز إلى عكا والياً من قبله، فلم يجب منكلي إلى تسليمها إليه، وقال: " أنا أخذت هذه المدينة بسيفي ". فنازعه الوالي فقتله، وخلع طاعة أتسز. وخرج إلى " طبرية "، فولى عليها من قبله، فقصده أتسز في بقية السنة، والتقى به على طبرية فهزم عسكره وقتله.
وكان أبو منكلي نائبا عنه بعكا، لما خرج عنها، فأخذ حريم أمير الجيوش وأمواله، وركب في البحر وسار إلى أمير الجيوش بمصر، فأقبل عليه، وولاّه " عكا " إلى أن عصى فيها سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فخرج إليه نصير الدولة الجيوشي، فحاصره وضايقه، إلى أن تسلمها منه، وولّي فيها ...
ولم تزل بعدُ في أيدي العبيديين، إلى أن نزل عليها بغدوين صاحب البيت المقدس، وبها زهر الدولة نبا الجيوش، نائباً عليها، في عسكر كثيرا، براً وبحراً، فقاتلها إلى أن عجز أهلها عن حمايتها. وخرج عنها واليها، وأنفذ يلتمس الأمان له ولأهل " عكا " لإياسه من وصول نجدة أو معونة من مصر، فلم يجبه بغدوين لما رأى من عجزهم وضعفهم، وجدّ في قتالها حتى أخذها عنوة في سنة " سبع وتسعين وأربعمائة "، في أيام الآمر.
وبقيت في يد الفرنج إلى أن قصدها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد كسرة الفرنج على " حطين " وأسر ملوكهم، ونزلها يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر، وقاتلها حتى أخذها عنوة، واستنقذ من كان فيها من أسراء المسلمين، وكانوا زهاء أربعة آلاف نفس، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر.
وبقيتْ في يده إلى أن قصدها الفرنج، ونازلوها يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة في جموع كثيرة.
فسار إليهم صلاح الدين، وواقعهم عليها وقائع لم يمكنه في شيء منها دفعهم عنها. وتتابع قتالهم إلى أن دخلوها على حين غفلة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين.
وبقيت في أيديهم بعد إلى عصرنا، الذي وضعنا فيه هذا الكتاب، يسرّ الله فتحها، وسنى للملة الإسلامية نُجحها.
[حيفا]
وهي فرضة لطبرية وبينهما ثلاث مراحل.
ما زالت على القاعدة التي قررناها في الولايات والانتقالات في أيدي المسلمين، إلى أن نازلها الفرنج في سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وحاصروها، وضايقوها. فبينما هُم ليلةً إذ سمعوا فيها صيحة عظيمة. فلما أصبح الصباح فتح من فيها أبوابها وخرجوا بالسلاح، وقاتلوا من عليها من الفرنج، حتى قتلوا عن آخرهم. ودخل الفرنج المدينة فوجدوهم قد قتلوا أولادهم ونساءهم.
ولم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاث وثمانين.
فلم تزال في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة، التي وقعت بينه وبينهمن وذلك في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ولم تزل بَعدُ في أيديهم.
الباب الخامس في
ذكر بلاد جند فلسطين
الرملة - القدس - الخليل - نابلس - قيسارية - أرسوف - يافا - عسقلان - غزة.
في ذكر بلاد جُند فلسطين