واستمرت في أيدي أصحاب مصر إلى أن تغلب الفرنج على بلاد الساحل، فكانت آخر ما تغلبوا عليه. وسبب تأخرها أنها ليس لها ميناء يُرسي فيها المراكب، ولم تؤخذ حتى تكررت منازلة الفرنج لها مراراً عديدة.
وأول من نزل عليها كندفري، ثم أخوه بغدوين، ثم الونس، ثم فلك بن فلك، وقطعوا أشجارها وكرومها، ورتبوا في الحصون المجاورة لها خيلا، تغاديها وتراوحها الغارات، وعمروا بالقرب منها في سنة أربع وأربعين وخمسمائة غزة، وسكنوها ومدَّوها بالرجال والفرسان.
فلما بلغ أهلها الجهد كتبوا إلى الملك العادل أبي الحسن علي بن السلاّر، يستنجدونه، فبعث أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني إلى الملك نور الدين محمود إلى الشام يلتمس منه أن ينزل على طبرية، ليشغل الفرنج عن التعرض بعسقلان، وبعث معه عسكراً، وأعطاه مالاً، وأمره أنه متى لم يجد من نور الدين عوناً أن يديون بالمال من قدر عليه.
فسار ابن منقذ الملك العادل فوجده محاصراً دمشق، وهو في شُغل بها عن الالتفات إلى غيرها، فاعتذر عليه، ومكنه من التديون، فدون في ثمانية أيام ثمانمائة وستين فارساً، وسار بهم إلى عسقلان، وأقام يحارب الفرنج أربعة أشهر لا ينقضي يوم منها بلا إغارة ثم أستدعي إلى مصر، فرحل عنها، وأقام الحصار عليها حتى مات فلك بن فلك، وملك بعده ولده الأكبر بغدوين فجدّ في حصارها، وعمل عليها برج خشب، وقاتلها حتى ملكها بالأمان في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وكان بها والٍ يسمى تميماً فلما خرج منها حمل معه رأس الحسين عليه السلام إلى القاهرة.
ولم تزل في أيديهم إلى أن نازلها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ونصب عليها المجانيق، وقاتلها قتالا شديدا حتى تسلمها يوم السبت سلخ جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وأخربها، ولم تزل في يده إلى أن تغلب الفرنج.
وبقيت في أيديهم إلى أن تقررت الهدنة بينهم وبين الملك الناصر، وشرط عليهم عودها إليه وتخريبها، فأخربها في شعبان سنة ثمان وثمانين، وكان عليها سور محكم البناء، بحيث أنه كان عرضه في موضع تسعة أذرع، وفي موضعٍ عشرة.
ولم تزال خراباً إلى أن ملكها الملك الصالح دمشق وأعطى الفرنج بلاداً كانت فيها وذلك سنة ثمان وثلاثين فعمروها.
ولم تزل في أيديهم إلى أن قصدها عسكر الملك الصالح نجم الدين ومقدمه معين الدين بن الشيخ فحاصرها حتى أخذها عنوة، وهدمها في مستهل جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وستمائة.
وبقيت في يده إلى أن توفي الملك المعظم ولده، فيما ملك بعده، إلى أن قتل، وملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد صاحب فيما ملكه من دمشق والسواحل.
ثم خرجت عنه في صلح الملك المعز في سنة إحدى وخمسين وستمائة، ثم عادت إليه في سنة اثنتين وخمسين ثم خرجت عنه إلى التتار عند استيلائهم على البلاد، ثم عادت إلى الملك المظفر سيف الدين قطز صاحب الديار المصرية في شهر رمضان، من سنة ثمان وخمسين وستمائة.
ثم ملكها السلطان الملك الظاهر فيما ملك في أواخر السنة المذكورة، ثم خرج إليها في سنة تسع وستين، وأخرب ما كان باقيا من قلعتها، وهي بيده إلى الآن.
[غزة]
وتُعرف بغزة هاشم، وهو هاشم بن عبد مناف، أبو عبد المطلب، لأنه كان كثير التردد إليها، وبها قبره.
وهي نشز مرتفع على البحر، وقد تقدّم لنا فتحها، وعمارة الفرنج لها.
طولها أربع وستون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة. طالعها الثور، صاحب ساعة بنائها المشتري.
ولما فتحت عسقلان، فُتحت بغير قتال في تاريخها، ولم تزل في يد صلاح الدين، ثم من بعده في يد العزيز، وفي أيامه أغارت الفرنج عليها، وعلى الداروم، فأمر بخراب قلعة الداروم.
ولم تزل غزة في يده، ثم في يد الأفضل أخيه، ثم في يد عمه الملك العادل، ثم في يد ولده الملك المعظم، ثم صارت في يد الملك الكامل، إلى أن مات، فتغلب عليها الملك الناصر ابن الملك المعظم، وولّى فيها.
وما زالت في يده إلى أن كانت بينه وبين الملك الجواد حرب استظهر عليه فيها الملك الجواد، فاستولى على غزة، وولَّى فيها من قبله.
ثم خرج عسكر الفرنج فاستولوا على غزة فأخرج إليهم الملك العادل سيف أبو بكر ابن الملك الكامل صاحب مصر عسكراً فدفعهم عنها وكسرهم وأعادها للملك الناصر.