وقيل: إن فخر الدولة بن جهير حمل من ذخائر بني مروان غير ما أخذه أبو سالم الطبيب وأودعه ألفي ألف دينار، عينا، سوى الآنية، والآلات، والأعلاق، من ذهب وفضة وجوهر، وأودع بديار بكر شيئا كثيرا.
وأقام فخر الدولة بالبلاد سنتين، ونفذ السلطان يستدعيه، فهمَّ بالعصيان. ثم أفكر أن ذلك لا يتم له لكون ولده عميد الدولة ببغداد فسار إلى بغداد وترك ولده زعيم الدولة بميافارقين على جميع ديار بكر فلما وصل رفع عليه ما أخذه من بيت بني مروان فغني به خواجا.
فرسم السلطان بديار بكر للعميد قوام الملك أبي علي البلخي فوُلي ديار بكر وسار إليها، فدخلها في سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة. فسار بالناس سيرة حسنة.
كان يجلس كل يوم بكرة للتدريس إلى ضحى النهار، ثم ينتقل فينظر في أحوال الرعية إلى العصر.
وشُبّهت أيامه بأيام نظام الدين في العدل وحسن السيرة، وأمن البلاد والطرق.
فسمع ليلة ناقوسا وقت السحر فقال: ما هذا؟ فقيل: دير عباد على رأس الجبل، فلما أصبح جمع الناس، وقال: يُضرب على رؤوس المسلمين بالناقوس، فإذا نحن بالقسطنطينية؟!. ثم نهض إليه وأمره بقلع المذبح، وعمل المحراب، واتخذه مسجدا وسُمي مسجد الفتح.
واجتمع النصارى وبذلوا خمسين ألف دينار، فلم يُقبل منهم، وبقي على " حاله مسجدا ".
ويُقال: إن الوزير فخر الدولة بن جهير هو الذي عمله مسجدا، فبذل له ثلاثون ألف دينار، فأعاده ديرا، ثم إن العميد أعاده مسجدا، وعمل صحنه محرابا ومُصلىَّ.
وكان العميد ولىَّ أرزن رجلا من أهل بُست فظلم الناس وعسفهم. وكان الناس يريدون بيت جهير فمضى جماعة منهم إلى عند السلطان، وتظلموا منه، فحضر المقابلة، وعوَّل السلطان على رده إلى ديار بكر، فحضر القاضي أبو بكر بن صدقة وابن زيدان والقاضي أبو القاسم ابن نباتة، وابن موسك والأمير أبو الهيجاء، وبنو غالب وتألموا منه، فوقع السلطان بديار بكر للوزير زعيم الدولة بن أبي طاهر بن الأنباري. وكان السديد ابن الأنباري أخو الوزير أبي طاهر ابن الأنباري الذي اعتُقل عند توجه فخر الدولة وطلب منه أخاه فادَّعى موته، وجرى بينهما شرحٌ يطول ذكره.
ثم أنفذ واستحضره من عند ياقوت الخادم من حصن كيفا، ومضى إلى دركاه السلطان وأقام بها إلى أن عُزل العميد أبو علي، وتوصل إلى أن كتب له التوقيع بديار بكرن وبقي معه تسعة أيام.
ثم اتفق أن عميد الدولة ابن جهير عزل عن الوزارة للمقتدي بأمر الله، فحضر دركاه السلطان وضمن ديار بكر ثلاث سنين بألف ألف دينار، فأُعطيها.
وتقدم السلطان إلى أهل ديار بكر بالمسير صحبته، ورسم له بعشرة آلاف دينار، تُنفق في أكابر أهل ديار بكر، منها للفارقية خاصة أربعة آلاف دينار. والباقي لسائر أهل ديرا بكر. فاجتمع أهل البلد وقالوا: هذه يأخذها الرؤساء ولا يصح لنا شيء، ونحن نسأل من السلطان إطلاق الغريب والبلدي، وهو ما يدخل من البساتين والكروم والكور من الفاكهة والخضر وغيرهما، وكذلك الفم والحطب ليشترك في هذه الإنعام الغني والفقير، فأُسقط عنهم، واستمر. وباقي البلاد أخذوا ما أطلق لهم، أخذه الأكابر منهم، ولم يُسقط عنهم شيء.
[ذكر ملك عميد الدولة ديار بكر]
وفي سنة اثنتين وثمانين، في ذي الحجة منها، وصل عميد الدولة وملك ديار بكر وأقام بها وجبي أموالها، وأحسن إلى الناس وأكرمهم وراعاهم. وأخذ ما كان له من الودائع. ويقال: إن أخذه البلاد كان لهذا السبب، أعني الودائع التي كانت لأبيه بديار بكر.
وفي شهر رمضان من سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة استقل فخر الدولة ابن جهير بديار ربيعة وخُطب له على منابرها، فأقام إلى رجب من سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة. وتوفي بالموصل وحملت أمراء بني عقيل جنازته، ودُفن بتل توبة. وبقي عميد الدولة بميافارقين إلى آخر سنة أربع وثمانين وأربع مائة.
واستدعي إلى دركاه السلطان، فخرج ومعه جماعة من متعيني ميافارقين إلى أن وصل إلى إصبهان. وأقام مدة ثم عاد إلى بغداد. فلما وصل عميد الدولة وزر للمقتدي ثانيا.
وكان عند خروجه من ميافارقين ترك بها أخاه كافي الدولة أبا البركات " بن فخر الدولة محمد بن محمد " بن جهير - وكان الصغير من أولاده - فبقي بديار بكر إلى شهر رمضان من سنة خمس وثمانين وأربع مائة.