فلما اجتمعا قال له الملك الكامل: إن هؤلاء التتر لا تُفيد معهم مداراة، ولا تنجح فيهم خدمةٌ، وليس لهم غرض إلا في ذهاب الأنفس، والاستيلاء على البلاد. ومولانا السلطان قد بذل لهم الأموال من سنة اثنتين وأربعين وإلى اليوم فما الذي أثرت فيهم من خلوص المودة؟ فلا يغترَّ مولانا بكلام بدر الدين ولا بكلام رسولك فإنهما جعلاك خبزا ومعيشة. وأحذرك كل الحذر من رسولك فإنه لا يناصحك ولا يختارك عليهم، وغرضه إخراج ملكك من يدك، وأنا فقد علمت أنني مقتول سواء كنت لهم أو عليهم، فاخترت بأن أكون باذلا مهجتي في سبيل الله. وما الانتظار وقد نزلوا على بغداد؟!! والمصلحة خروج السلطان بعساكره لإنجاد المسلمين، وأنا بين يديه، فإن أدركناه عليها فبها ونَعْمتْ، وكانت لنا عند الخليفة اليد البيضاء وإن لم ندركه أخذنا بثأره.
فحسن هذا القول في عقول من حضر خلا الملك الصالح نور الدين علي - ابن صاحب حمص - وابن أخيه الملك الأشرف موسى والأمير نجم الدين محمد بن الافتخار ياقوت - أمير حاجب - فإنهم كانوا متفقين مع الزَّين الحافظي باطنا.
فعرض عليه الملك الناصر أن يبعث معه رسولا إلى هولاكو يُشفّعُ فيه عنده.
فقال له: جئتك في أمر ديني تُعوّضُني عنه بأمرٍ دنيوي، ولو أردت هذا كنت أوجه منك عنده، فإني رأيت وجهه مرتين.
فقال له: متى نزلوا عليك أنفذت لك عسكرا تستنصر به عليهم.
فقال: كل هذا لا ينفعني حينئذٍ، إذ لا وصول له إليَّ، ثم انفصل الحالُ.
وبقي إلى أن أخذت بغداد فاجتمع به، وقرر معه أن ينجده متى قصدهُ.
ثم فارقه وقصد بلاده. فلما وصل إلى حلب اجتمعتُ به وقلتُ له: أصبت في قصدك الملك الناصر وما أصبت في رجوعك، هلا قصدت مصر!! فقال: خفت على قلب الملك الناصر. فأشرت عليه أنه إذا وصل إلى بلاده يُخرِجُ منها حريمهُ، ويستخلف بها نوابا ويعود إلى الملك الناصر لعل تنهضُ عزيمته فيُعينه على بلوغ مُراده منه.
[ذكر ما اعتمده صاحب ميافارقين بعد عوده]
لما عاد الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي إلى ميافارقين تواترت عليه الأخبارُ بقصد التتر بلاده، فنقل حريمه إلى قلعة اليمانيّة، وخرج من ميافارقين إلى آمد، فلما وصل إليها جرَّدَ منها عسكرا إلى ميافارقين لتكون مع نائبه فيها الأمير عماد الدين ابن نُباتة. فلما خرج العسكر من آمد عرج منه الأمير شرف الدين الآوي وقصد ماردين لحقد كان في نفسه، وذلك أن الملك الكامل كان قد منع الخمر في بلاده. وكان شرف الدين هذا مُدمنا لها فسأله استئثاره بها فأبى، فحملته الحمية على أن كاتب التتر ووعدهم أن يُسلم إليهم ميافارقين.
ولما وصل إلى ماردين أطلع صاحبها الملك السعيد على عزم التتر ليأخذ حذره منهم وأقام عنده إلى أن قصد التتر ميافارقين فتوجّه إليهم.
[ذكر نزول التتر على ميافارقين]
خرجت التتر من موغان إلى خِلاط. فلما وصلوا إليها تقدمتهم طائفة إلى ميافارقين مقدَّمها كهداي فاتصل ذلك بالملك الكامل وهو بآمد فجمع خواصَّه واستشارهم. فأشار عليه سيف الدين بن مجلي - زوباشي آمد - ألا يخرج إليهم، ولا أحدٌ من جهته. فلم يوافق ذلك رأيه، وخرج من آمد يريد كبس كهداي. فلما قرُب من عسكره رأى أن لا طاقة له بهم، وخاف ان يُلقي بنفسه إلى التهلكة، وكان ذلك ليلا، فلم يصبح الصباحُ إلا ويشموط بن هولاكو قد وصل بالعساكر. فبادر الملك الكامل إلى ميافارقين فدخلها. ونزلت العساكر عليها في يوم الأربعاء الثاني عشر من ذي القعدة من سنة ستٍ وخمسين.
وبعث كهداي رسولا إلى الملك الكامل يحضُّه على الخروج إلى يشموط بهديّةٍ وأن يضايفهُ، فأنكر عماد الدين بن نباتة أن الملك الكامل في ميافارقين، وبعث إليهم ضيافةً فقبلوها. وكانت الهدية على يد ناصر الدين محمد بن ركن الدين طنغر - مملوك السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب - أخي تقيِّ الدين عباس ابن الملك العادل من أمه. فسألوه عن السلطان الملك الكامل فأنكره، فوعدوه بالجميل، وأن يكون في خدمتهم، فأقرَّ أنه بالبلد، واستمر في خدمة التتر ولم يعد إلى ميافارقين، وجُعل أمير شكار بسب أنه كان معه في جملة الهدية طيورٌ جوارحٌ، وكان يلعب بالجارح.