ثم وصلت إلى التتر نجدةُ صاحب الموصل مع ولديه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق والملك المظفر علاء الدين علي وعلم الدين سنجر الآمدي. ووصلت إليهم نجدةُ صاحب ماردين مع ولده الملك المظفر، وجدُّوا في طلب الملك الكامل. فلما تمادى أهل ميافارقين على إنكاره حفروا خندقا، ونصبوا المجانيق. ودخلت سنة سبع وخمسين وستمائة.
ذكر توجُّهي رسولاً من التتر الذين على ميافارقين
خرجت من دمشق رسولا إلى التتر النازلين على ميافارقين في مستهل المحرم صحبة الملك المُفضَّل صلاح الدين يوسف ابن الملك المفضل موسى بن صلاح الدين وأخرج معنا الملك الناصر أولاده الثلاثة وحريمه ليكونوا بحلب وهم: الملك العادل والملك الأشرف وولدٌ آخر صغير. وأمر نأخذ معنا من حلب هديةً إلى يشموط، وهي ألفٌ وخمس مائة دينار عينا، وحياصةٌ مجَوهَرةٌ. فلما وصلنا حماة تعرضت رُسُل التتر لصاحبها وانتهكوا حرمته، وأخذوا شجاع الدين مرشد الخادم - مقدَّم عسكره - وشيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز. وطلبوا الملك المظفر ليأخذوه معهم بسبب الرُّسُل الذين قُتلوا في بلاده، فتوسّطتُ بينه وبينهم على ألفي درهمٍ وضيافةٍ فقبلوها، وأطلقوا من كان أُخِذَ.
ثم وصلنا إلى حلب في الخامس عشر من المحرم، وخرجنا منها في الثالث والعشرين منه، فوصلنا إلى حرّان في الثامن والعشرين. ورحلنا منها مستهل صفر، فوصلنا إلى ماردين في الرابع منه فأقمنا باه ليلتين واجتمعنا بالملك السعيد - صاحبها -، وأنهينا إليه رسالةً من الملك الناصر مشافهةً، تتضمن استشارته في أمر التتر. لفم يجبنا بكلمةٍ، وقال: قد ضجِرتُ من نصحي إياه.
ثم توجهنا إلى ميافارقين، فوافينا في طريقنا على مدينة صور طائفة من التتر قاصدين الإغارة على الجزيرة ومقدَّمها هندوخان، فقدَّمنا له تقدمةً وانفصلنا عنه بعد أن طبقنا إلى ماردين، وحرّان " وحلب "، بتجفيل مَنْ بها. ثم رحلنا من صور وعبرنا الشطَّ فنزلنا منزلة وصل إلينا فيها من المُغل جماعة كبيرة، ومعهم أميرٌ يقال له: صقلبو، فنزل عندنا، وطلب منا طعاما فأطعمناه. ثمَّ رحلنا ونزلنا منزلة أخرى فوصل إلينا من التتر جماعةٌ، ومعهم قامات، فعرضوا جميع أصحابنا وما معنا من الدَّواب. ثمَّ أوقدوا نارا في ناحيتين، ومروا بنا بينهما، وهم يُضرِّبُنا بالعصيِّ، وأخذوا من عرض الثياب ثوبا خطائيا مذهبا، فقطعوا منه قدر ذراع، ثم قطعوا الذراع قطعا صغارا، ولَقُّوها وأحرقوها بالنار. ثم قالوا: إيل خان يأمركم أن تستريحوا الليلة وتحضروا عنده غدا. فلما أصبحنا حضر إلينا جماعةٌ، وأخذوا ما كان معنا من الهدية، وحملوها بين أيدينا، وأمرونا بالمسير معهم، فلما حضرنا عنده أدَّينا الرسالة، وكان مضمونها التهنئة بالقدوم والشكوى من تعرضهم لبلاده الجزيرة وقتل من بها من الرعية. ونمت عليهم بانقياده إليهم منذ عشرين سنة طوعا واختيارا. وبما يبعثه من الهدايا والأموال التي لم تُجد عليه شيئا.
فلما سمعوا الرسالة، أذنُوا لنا بالانصراف إلى المكان الذي أُنزلنا فيه.
فلما كان الغد، أحضرونا وأسمعونا كلاما غليظا، وقالوا: إن رعاياكم قاتلونا وبدؤونا الحرب، وإنا لم ندخل الجزيرة إلا في طلب أعدائنا التركمان والعرب.
وطلبتُ منهم ما كانوا أخذوه من بلد حرَّان أو العوض عنه. وقُلتٌ: متى لم تنصفونا خرجنا عن الطاعة. فأغاظهم ذلك، وقالوا لي: كم لك رأسٌ؟ من ذا الذي يقابل إيل خان بهذا الكلام؟.
ثم أقامونا مُزعَجين، ومروا بنا على قتلى، وقالوا لنا: إن لم تكونوا عقلاء، وإلا كنتم مثل هؤلاء.
[ذكر ما جرى لي مع نواب صاحب ميافارقين]
كنا قدمنا القول بأن التتر طلبوه لما نزلوا على ميافارقين فأنكروه!. فلماّ تحققوا أنه أحضرت بعد يومين من هذه المحاورة، وقيل لي: صاحب ميافارقين بطلبك!!. فقلت: مالي عندي حاجة، فقالوا: تتوجه إليه بأمرنا. فقلت: ما أمرني صاحبي بذلك، فقالوا: لابدّ من مضيك إليه.
فقلت: ما الذي أقول له إذا اجتمعت به؟ قالوا: تقول له: قد جئنا من عند الملك الناصر لنشفع فيك، على أن تخرج إلى إيل خان وتكون في طاعته.
فأبيت تحمل هذه الرسالة، فأمروا بإخراجي، ومروا بي على وادٍ مملوء قتلى، وقالوا: أنت إلى ساعةٍ أخرى من هؤلاء!! فقلت: لا يدفع قضاء الله بحيلة.