ثم إنه سار إلى قسطنطين وأعلمه بحال الهدنة والصلح. ففرح بذلك فرحا عظيما، وقال له: تمن علي ما أردت! فقال: مالي حاجة في الدنيا، ولكني أسألك أن أبني في موضعي دوارا للغنم، وبيعة داخل الدوار. وأريد منك المعونة على ذلك. فكتب الملك له إلى هذه الديار بإطلاق يده فيما يريد.
فأتى إلى هذه الخطة وقطع الحجر، وحرق الآجر، وبنى البيعة في رأس التل، وأحاط بها سورا ضعيفا. ثم استأذن الملك في بناء بنية تحصنه من العدو فأذن له. فبنى البرج المعروف ببرج الملك. وبنى به بيعة وكتب اسم الملك عليها. فوشي به إلى الملك وقيل: إنه قد بنى بنية عظيمة، وربما خرج عن الطاعة!! فسير الملك ثقاته، وأمرهم أنهم أن وجدوا اسم الملك مكتوبا على ما عمره " فأبقوا على ما عمر " وإلا فاهدموا ما عمره.
فلما وصلوا وعاينوا البيعة وعليها اسم الملك عادوا إليه وأخبروه بذلك. فتقدم الملك إلى وزرائه بإفراد ارتفاع البلاد من قاطع القسطنطينية إلى آخر ولاية نصيبين. وجباية الأموال وحملها إلى مروثا وأمره بإتمام المدينة. فجمع الصناع، وأدار السور، وأكمل العمارة، وسميت ميافارقين، وتفسيره بالعربي: مدينة الشهداء، لعظام الشهداء المنقولة إليها وهي إلى يومنا هذا لم تؤخذ بالسيف عنوة.
وآمد إلى جانبها أقوى منها وأحصن، وقد أخذت بالسيف مرارا.
ثم إن هيلانة شرعت في بناء البيعة الكبيرة، وهي أول بيعة بنيت لأن الصليب مصور بالمذبح، وذلك يعمل في أول بيعة تبنى.
وتقدم الملك إلى وزرائه الثلاثة ببناء أبرجة: فبنى أحدهم برج الرومية، والبيعة بالعقبة.
- وبنى الآخر برج الزاوية ويعرف ببرج علي بن وهب، وبيعة كانت تحت التل وهي الآن خراب وأثرها باق مقابل حمام النجارين -.
- وبنى الثالث برج باب الربض والبيعة المدورة.
وعمل بها من الطلمسات مالا يوسف.
وجعل لها ثمانية أبواب: " ١ " -: باب أرزن ويعرف بباب الجنائز.
" ٢ " -: وباب قلوفح وهو بين برجي الطبالين.
ويسمى: باب المرآة. لأنه كان عليه مرآة في أعلاه بين البرجين، فكانت إذا طلعت الشمس يرد شعاعها الجبل من فرسخ. وأثر المرأة باق إلى الآن، وبعض الضبات الحديد باقية بين الأحجار.
" ٣ " - " وباب الشهوة وهو من برج الملك.
" ٤ " -: وباب مقابل باب أرزن - نصبا - ويعرف: بباب الجبل.
" ٥ " -: وباب بالربض أيضا بين البرجين.
" ٦ " -: وباب الفرج والغم، وصورتا الفرج والغم منقوشتان في الحجر، مما يلي القبلة، من ركن الباب صورة الفرج رجل يصفق بيديه، وصورة الغم رجل قائم على رأسه صخرة.
فما عُلم أنه بات بمياقارقين أحد مغموما ولا مهموما إلا النادر من الناس، بخلاف آمد فإن الغريب بها من العصر يأخذه الغمُّ وينزل عليه الحزن، ويسمى هذا باب القصر العتيق الذي بناه بنو حمدان.
" ٧ " -: وباب في أسفل العقبة، عند مخرج الماء.
" ٨ " -: وباب فتحه سيف الدولة يعرف بباب الميدان.
وفي من هذه الأبواب، على ما شاهدت عند قدومي عليها أربعة: " ١ " -: باب المُحدثة - وهو قبليها -.
" ٢ " -: والباب الجديد - عند القصر -.
" ٣ " -: وباب الربض.
" ٤ " -: وباب آخر يفتح من القصر - شمالي البلد -.
" ٥ " -: وآخران مسدودان.
ذكر ما جُدِّد فيها من العماير بعد الفتح
بني أحمد بن عيسى بن الشيخ منارة الجامع، واسمه مكتوب عليها في لوح تاريخه سنة ثلاث " وسبعين ومائتين ".
وبنى البرج القبلي واسمه أيضا مكتوب عليه.
ولما وليها سيف الدولة ابن حمدان رمَّ سورها، وكان قد تشعث.
" ولم يكن على الباب الأوسط باب، بل كان له مشط من الحديد، فكسره القاضي عبد الله بن الخليل وزاد عليه وضرب الحديد مصراعين، وركبهما على الباب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ووزن المصراعين ثلاثة آلاف وثلاث مائة رطل بالظاهري.
وكان على الفصيل باب ضعيف حديد، فكسره القاضي أيضا، وزاد عليه، فصار وزن المصراعين ألفين وأربعمائة وستين رطلاً بالظاهري واسم سيف الدولة والقاضي مكتوبان على البابين حفرا ".
" وكان شراب أهل ميافارقين من الآبار، فأجرى سيف الدولة من العين التي بالربض المعروفة برأس العين قناة، وساقها في وسط البلد، ودخل بها من باب الربض، وجاءت بين السورين، وأجراها في المدينة إلى أن أوصلها إلى القصر العتيق، وهي أول قناة سقت إلى المدينة ".