كان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز - صاحب الشام - قد عاد من كسرة المصريين له على الصورة. فلما وصل إلى دمشق وصحبته الملك المظفر علاء الدين علي ابن بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - ومجاهد الدين قايماز - مقدم عسكر الموصل - وكانا لحقاه إلى العريش عند قصده مصر، وصلت إليه رسل بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - بعد عشرين يوما من وصوله، ومعهم هدية سنية من خيلٍ وقماشٍ وآلات تساوي عشرين ألف دينار، مهنئا له بالسلامة، ومعهم كتاب إلى ولده الملك المظفر علاء الدين علي المذكور بأمره فيه ألا يبرح في خدمة المولى الملك الناصر ولو خاض البحر خض معه، أو ولج النار لج معه.
فبعد أيام وصلت رسل من بايجو نوين ومعهم تجار وعلي أيديهم يغالغ تتضمن حوالات على سائر الملوك منها: - يغلغ على السلطان الملك الناصر. بمائتي ألف دينار.
- وعلى صاحب الروم عز الدين بمائتي ألف دينار.
- وعلى بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - بمائة ألف دينار.
- وعلى الملك السعيد - صاحب ماردين - بمائة ألف دينار.
- وعلى الملك الكامل - صاحب ميافارقين - بمائة ألف دينار.
- وعلى صاحب الجزيرة بمائة ألف دينار.
- وعلى صاحب حصن كيفا بخمسين ألف دينار.
وكانت الرسل والتجار قد راحوا إلى جميع الملوك والتمسوا ما كان في اليغالغ فأحالوهم علينا، واحتجوا بأن السلطان الملك الناصر هو كبيرنا، ونحن نخطب له، وما يمكنا أن نزن شيئا إن لم يزن هو. فجاؤوا إلى الملك الناصر - كما ذكرنا - وطالبوه، فأشار عليه الزين سليمان الحافظي وجماعة أن يصالحهم.
يقول جامع هذا الكتاب فقلت: على أي صورة نصالحهم؟ ونحن لما توجه تاج الملوك إلى كويك خان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، كتبوا له يغالغ مضمونها: إننا لا نقبل حوالة، ولا ننجد بعسكر.
فلما سمع الملك " الناصر " كلامي سير إلى حلب واستحضر اليغالغ، فلما حضرت وجد مضمونها كما قلت، فتقدم إلي بالمسير مع الرسل إلى الملوك المذكورين لأحاققهم بحضور الرسل والتجار، وأمرني بالسفر.
فاتفق في ذلك الوقت وصول رسل الملك المسعود - صاحب الجزيرة - يستصرخ إلى السلطان الملك الناصر من بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - ويشكو منه ومن تعديه عليه لوفاة والده الملك المعظم ويطلب أن يسلم الجزيرة إليه وأن يعوض عنها، فلم يسمع الملك الناصر ذلك الوقت لاشتغال وجهه بالمصريين أن يأخذ الجزيرة وأن يعوض عنها.
فرسم لي أن أشفع له عنه عند إلى بدر الدين - صاحب الموصل - وأوفق بينهما.
وسير معي جارت به العادة من خيل وخلع وسنجق فتوجهت وتقدمتني الرسل إلى الموصل.
وكان مجد الدين عبد الرحمن ابن الصاحب كمال الدين عمر المعروف بابن العديم قد توجه إلى الموصل معزيا له في ولده فتقدمني إليه. فلما وصلتُ إلى الموصل اجتمعتُ ببدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - وأديتُ ما معي من الرسالة، وتحدثت معه في قضية الملك المسعود وشفعت فيه عن السلطان الملك الناصر فأخذ بذكر ما اعتمده الملك المسعود في حقه بعد وفاة أبيه من التعدي، ومن إسماعه لابنته الكلام القبيح، وذكر ما لا يليق. ثم أمرني بأن أكون حيث أكون أسمع كلام ابنته فأبيتُ وقلت: ما يحتاج مع كلام السلطان إلى برهان!! وفي كلامه كفايةٌ.
وقال لي: البلاد تصلح لمن ينفع المسلمين ويداري عنهم، وهذا فهو مشغول بالانهماك في اللذات والأكل والشرب. وإذا نزلت بالمسلمين نازلة لم ينفعهم، وأنا أحمل إلى السلطان الملك الناصر خمسين ألف دينار عينا ويسلم إليَّ الجزيرة. وتقيم أنت عندي إلى أن أسير إليه وأشاوره. فلاطفته وقلت: ما يليقُ أن تردَّ خلعة الملك الناصر وسنجنه!!.
فلما لم يرَّ مني موافقة على ما أراد، عدل عن الحديث معي، وتحدث مع مجد الدين ابن العديم. فكتب كتابا إلى والده كمال الدين وإلى السلطان الملك الناصر يقول له: إن فلانا قد طلب أن يخرج بدر الدين من يدك لأجل صاحب الجزيرة. وأصلح السلطان الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الصاحب كمال الدين في الباطن بما عطف به الملك الناصر وسيَّر رسلا من جهته، خِفية عني، وسيَّر معي رسولا إلى صاحب الجزيرة فخرجت من عنده وتوجهت إلى الجزيرة.