قِيلَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِكْثَارُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ إِخْرَاجَ حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، وَعَدَمُ إِخْرَاجِ أَصْحَابِ الْأُصُولِ حَدِيثَ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَعَلَّ جَمْعُهُ الْمُسْنَدَ كَانَ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِطَلَبِهِمُ الْعُلُوَّ الْمُقَدَّمَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ.
قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَتَيْنَا مَالِكًا فَجَعَلَ يُحَدِّثُنَا عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكُنَّا نَسْتَزِيدُهُ مِنْ حَدِيثِهِ، فَقَالَ لَنَا يَوْمًا: مَا تَصْنَعُونَ بِرَبِيعَةَ؟ ! هُوَ نَائِمٌ فِي ذَلِكَ الطَّاقِ ; فَأَتَيْنَا رَبِيعَةَ فَنَبَّهْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ رَبِيعَةُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قُلْنَا: الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْكَ مَالِكٌ؟ ! قَالَ: نَعَمْ قُلْنَا: كَيْفَ حَظِيَ بِكَ مَالِكٌ، وَلَمْ تَحْظَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مِثْقَالَ دُولَةٍ خَيْرٌ مِنْ حَمْلِ عِلْمٍ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالدُّولَةِ اللُّطْفَ الرَّبَّانِيَّ، وَالتَّوْفِيقَ الْإِلَهِيَّ. قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الثَّوْرِيُّ إِمَامٌ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامٌ فِي السُّنَّةِ، وَمَالِكٌ إِمَامٌ فِيهِمَا، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَالَ لَهُ: أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ دِينِي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ اذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْتُ عَلَى بَابِ مَالِكٍ كُرَاعًا مِنْ أَفْرَاسِ خُرَاسَانَ، وَبِغَالِ مِصْرَ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ! فَقُلْتُ: مَا أَحْسَنَهُ! فَقَالَ: هُوَ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: دَعْ لِنَفْسِكَ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَقَالَ: أَنَا أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَطَأَ تُرْبَةً فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ بِحَافِرِ دَابَّةٍ، وَكَانَ مُبَالِغًا فِي تَعْظِيمِ حَدِيثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّثَ: تَوَضَّأَ، وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ، وَسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وَتَطَيَّبُ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُلُوسِ عَلَى وَقَارٍ، وَهَيْبَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ كَلَامِهِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ خَيْرٌ. وَقَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ لِي هَارُونُ الرَّشِيدُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَنْبَغِي أَنْ تَخْتَلِفَ إِلَيْنَا حَتَّى يَسْمَعَ صِبْيَانُنَا مِنْكَ الْمُوَطَّأَ، يَعْنِي الْأَمِينَ، وَالْمَأْمُونَ، فَقُلْتُ: أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنْكُمْ خَرَجَ فَإِنْ أَنْتُمْ أَعْزَزْتُمُوهُ عَزَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَذْلَلْتُمُوهُ ذَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَضَعْ عِزَّ شَيْءٍ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَالْعِلْمُ يُؤْتَى، وَلَا يَأْتِي، قَالَ: صَدَقْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ، كَانَ هَذَا هَفْوَةً مِنِّي اسْتُرْهَا عَلَيَّ اخْرُجُوا إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى تَسْمَعُوا مَعَ النَّاسِ. وَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ: أَلَكَ دَارٌ؟ قَالَ: لَا، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا دَارًا فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُنْفِقْهَا، وَلَمَّا أَرَادَ الرَّشِيدُ الشُّخُوصَ، قَالَ لِمَالِكٍ: يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجَ مَعِي ; فَإِنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمُوَطَّأِ كَمَا حَمَلَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أَمَّا حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْمُوَطَّأِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَقُوا بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ فَحَدَّثُوا فَعِنْدَ أَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ عِلْمٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» "، وَأَمَّا الْخُرُوجُ مَعَكَ ; فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» "، وَهَذِهِ دَنَانِيرُكُمْ كَمَا هِيَ إِنْ شِئْتُمْ فَخُذُوهَا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَدَعُوهَا، يَعْنِي أَنَّكَ إِنَّمَا كَلَّفْتَنِي مُفَارَقَةَ الْمَدِينَةِ لِمَا صَنَعْتَ إِلَيَّ فَلَا أُوثِرُ الدُّنْيَا عَلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ. وَصَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ كِتَابٌ فِي الْعِلْمِ أَكْثَرُ صَوَابًا مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا قَبْلَ وُجُودِ الصَّحِيحَيْنِ، وَإِلَّا فَهُمَا أَصَحُّ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَرْسَلَهُ بِهَا أَهْلُ بَلَدِهِ فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهُ، فَقَالَ: لَا أُحْسِنُ. قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ قَالَ: قُلْ لَهُمْ: قَالَ مَالِكٌ لَا أُحْسِنُ! أَخَذَ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ تَابِعِيٍّ، وَأَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ تَابِعِيهِمْ. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute