للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَنَشَرَ عِلْمَ الْحَدِيثِ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَفَضْلُهُ إِلَى أَنْ مَلَأَ الْبِقَاعَ، وَالْأَسْمَاعَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مَدْحِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ اسْتَعَارَ مِنِّي كِتَابَ الْأَوْسَطِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَفِظَهُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.

وَلَمَّا صَنَّفَ كِتَابَ الرِّسَالَةِ أُعْجِبَ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْسَانِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْخَوَارِقِ حَتَّى قَالَ الْمُزَنِيُّ: قَرَأْتُهُ خَمْسَمِائَةِ مَرَّةٍ مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَقَدِ اسْتَفَدْتُ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ أَكُنْ عَرَفْتُهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمَّا رَأَى اهْتِمَامَهُ بِنَصْرِ السُّنَّةِ. وَصَنَّفَ فِي الْعِرَاقِ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ الْمُسَمَّى بِالْحُجَّةِ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَصَنَّفَ كُتَبَهُ الْجَدِيدَةَ بِهَا، وَرَجَعَ عَنْ تِلْكَ، وَمَجْمُوعُهَا يَبْلُغُ مِائَةً وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مُصَنَّفًا، وَشَاعَ ذِكْرُهَا فِي الْبُلْدَانِ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْطَارِ لِلْأَخْذِ عَنْهُ، وَكَذَا أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ لِسَمَاعِ كُتُبِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ عَلَى بَابِ الرَّبِيعِ تِسْعُمِائَةِ رَاحِلَةٍ. وَابْتَكَرَ أُصُولَ الْفِقْهِ، وَكِتَابَ الْقَسَامَةِ، وَكِتَابَ الْجِزْيَةِ، وَكِتَابَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَكَانَ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ، وَأَذِنَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ مُفْتِي مَكَّةَ فِي الْإِفْتَاءِ بِهَا، وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرُبَّمَا أُوقِدَ لَهُ الْمِصْبَاحُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، وَلَمْ يُبْقِهِ دَائِمَ الْوَقُودِ. قَالَ ابْنُ أُخْتِهِ مِنْ أُمِّهِ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَجْلَى لِلْقُلُوبِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ، فَهُوَ مَذْهَبِي، وَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَانْفَرَدَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي غَيْرِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ كَلَامِهِ الدَّالِّ عَلَى إِخْلَاصِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّمَهُ النَّاسُ أُوْجَرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْمَدُونِي قَطُّ، وَوَدِدْتُ إِذَا مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ.

وَمِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ أَيْ: مَعَ الْعَمَلِ، وَمَا أَفْلَحَ فِي الْعِلْمِ إِلَّا مَنْ طَلَبَهُ فِي الذِّلَّةِ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَطْلُبُ الْقِرْطَاسَ فَيَعِزُّ عَلَيَّ، لَا يَتَعَلَّمُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمَلَكَةِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ، وَضِيقِ الْعَيْشِ أَفْلَحَ، تَفَقَّهْ قَبْلَ أَنْ تَرْأَسَ فَإِذَا تَرَأَّسْتَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَقُّهِ. زِينَةُ الْعِلْمِ الْوَرَعُ، وَالْحِلْمُ، لَا عَيْبَ فِي الْعُلَمَاءِ أَقَبَحُ مِنْ رَغْبَتِهِمْ فِيمَا زَهَّدَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَزُهْدِهِمْ فِيمَا رَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ. فَقْرُ الْعُلَمَاءِ فَقْرُ اخْتِيَارٍ وَفَقْرُ الْجُهَّالِ فَقْرُ اضْطِرَارٍ، النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ مِنْ سُورَةِ {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: ١ - ٢] مَنْ لَمْ تُعِزَّهُ التَّقْوَى فَلَا تَقْوَى لَهُ، مَا فَرَغْتُ مِنَ الْعِلْمِ قَطُّ، طَلَبُ فُضُولِ الدُّنْيَا عُقُوبَةٌ عَاقَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ. مَنْ غَلَبَتْهُ شِدَّةُ الشَّهْوَةِ لِلدُّنْيَا لَزِمَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ لِأَهْلِهَا، وَمَنْ رَضِيَ بِالْقُنُوعِ زَالَ عَنْهُ الْخُضُوعُ، لَا يَعْرِفُ الرِّيَاءَ إِلَّا الْمُخْلِصُونَ، لَوِ اجْتَهَدْتَ كُلَّ الْجُهْدِ عَلَى أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَلَا سَبِيلَ لِذَلِكَ فَأَخْلِصْ عَمَلَكَ وَنِيَّتَكَ لِلَّهِ، لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِشَيْءٍ لَأَعْقَلِ النَّاسِ صُرِفَ لِلزُّهَّادِ، سِيَاسَةُ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ، الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَهُ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ مَذْمُومٍ، وَمَنْ نَمَّ لَكَ نَمَّ بِكَ، مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ، التَّوَاضُعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ، وَالتَّكَبُّرُ مِنْ شِيَمِ اللِّئَامِ. أَرْفَعُ النَّاسِ قَدْرًا مَنْ لَا يَرَى قَدْرَهُ. الشَّفَاعَاتُ زَكَاةُ الْمُرُوءَاتِ. مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَلَمْ يَفْتَقِرْ فَهُوَ لِصٌّ. لَا بَأْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ سَفِيهٌ يُسَافِهُ بِهِ. مُدَارَاةُ الْأَحْمَقِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. الِانْبِسَاطُ إِلَى النَّاسِ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالِانْفِرَادُ عَنْهُمْ مَكْسَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ فَكُنْ بَيْنَ الْمُنْقَبِضِ وَالْمُنْبَسِطِ، لَأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكَلَامِ فَإِنِّي وَاللَّهِ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا ظَنَنْتُهُ قَطُّ. وَكَانَ يَكْتُبُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يُصَلِّي ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنَامُ ثُلُثَهُ، وَيَخْتِمُ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً. أَقُولُ: لَعَلَّهُ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ. وَقَالَ: مَا كَذَبْتُ قَطُّ، وَلَا حَلَفْتُ بِاللَّهِ صَادِقًا، وَلَا كَاذِبًا، وَمَا تَرَكْتُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ قَطُّ، وَمَا شَبِعْتُ مُنْذُ سِتَّةَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا شِبْعَةً طَرَحْتُهَا مِنْ سَاعَتِي قَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. وَكَانَ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي السَّخَاءِ، قَدِمَ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَمَا بَرِحَ مِنْ مَجْلِسِ سَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَّقَهَا كُلَّهَا، وَسَقَطَ سَوْطُهُ فَنَاوَلَهُ إِنْسَانٌ فَأَمَرَ غُلَامَهُ بِإِعْطَائِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَكَانَتْ سَبْعَةً، أَوْ تِسْعَةً، وَانْقَطَعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>