شِسْعَ نَعْلِهِ فَأَصْلَحَهُ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَبِيعُ، أَمَعَكَ مِنْ نَفَقَتِنَا شَيْءٌ، قُلْتُ: سَبْعَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ. خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةَ الْعِيدِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَنَا أُذَاكِرُهُ فِي مَسْأَلَةٍ حَتَّى أَتَيْتُ بَابَ دَارِهِ فَأَتَاهُ غُلَامٌ بِكِيسٍ، وَقَالَ: مَوْلَايَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: خُذْ هَذَا الْكِيسَ فَإِنَّهُ لَكَ هَدِيَّةٌ، وَعَلَيْنَا الْمِنَّةُ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَلَدَتِ امْرَأَتِي السَّاعَةَ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِيسَ، وَصَعِدَ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ شَهْوَةَ أَصْحَابِهِ، وَرَكِبَ حِمَارَهُ، وَأَحْمَدُ يَمْشِي بِجَانِبِهِ، وَيُذَاكِرُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فَعَتَبَ أَحْمَدَ فَأَرْسَلَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ حِمَارِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ! ، وَكَانَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ بِالرَّمْيِ حَتَّى يُصِيبَ عَشَرَةً مِنْ عَشَرَةٍ، وَبِالْفُرُوسِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَ بِأُذُنِهِ، وَأُذُنِ الْفَرَسِ فِي شِدَّةِ عَدْوِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ - وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: ٣٥ - ٣٦] ; فَتَغَيَّرَ الشَّافِعِيُّ، وَارْتَعَدَ، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مَقَامِ الْكَذَّابِينَ، وَمِنْ إِعْرَاضِ الْجَاهِلِينَ هَبْ لِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَجَلِّلْنِي بِسَتْرِكَ، وَاعْفُ عَنِّي بِكَرَمِكَ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى غَيْرِكَ، وَلَا تُقَنِّطْنِي مِنْ خَيْرِكَ. وَمِنْ كَلَامِهِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ أَوْلِيَاءَ فَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلِيًّا جَاهِلًا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلًا، وَلِإِخْوَانِي مُفَارِقًا، وَلِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ شَارِبًا، وَلِسُوءِ أَعْمَالِي مُلَاقِيًا، وَعَلَى اللَّهِ وَارِدًا، فَلَا أَدْرِي رُوحِي تَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ فَأُهَنِّيهَا، أَوْ إِلَى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا! ، ثُمَّ بَكَى، وَأَنْشَدَ يَقُولُ:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي، وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
تُوُفِّيَ آخَرَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْمَغْرِبَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَقَبْرُهُ بِقَرَافَةِ مِصْرَ، وَعَاشَ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.
(وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فَالنِّسْبَةُ الْأُولَى مَجَازِيَّةٌ (الشَّيْبَانِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ وَهُوَ الْمَرْوَزِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، كَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ، وَالزُّهْدِ، وَالْوَرَعِ، وَالْعِبَادَةِ، وَبِهِ عُرِفَ الصَّحِيحُ، وَالسَّقِيمُ، وَالْمَجْرُوحُ مِنَ الْمُعَدَّلِ، نَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَطَلَبَ الْعِلْمَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ شُيُوخِهَا، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى مَكَّةَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَالْمَدِينَةِ، وَالْيَمَنِ، وَالشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَسَمِعَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّامٍ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَمِّهِ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي آخِرِ (كِتَابِ الصَّدَقَاتِ) تَعْلِيقًا، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ عَنْهُ: فَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ، وَمَنَاقِبُهُ شَهِيرَةٌ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَعْمُولِ بِقَوْلِهِ وَرَأْيِهِ وَمَذْهَبِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ أَحْمَدُ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ قَالَ أَيْضًا: حَرَزْتُ كُتُبَهُ اثْنَيْ عَشَرَ حِمْلًا أَوْ عَدْلًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَحْفَظُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ: كَأَنَّ مُجَالَسَةَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُجَالَسَةُ الْآخِرَةِ لَا يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى: حُمِلَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِيرَاثُهُ عَنْ مِصْرَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَمَلَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثَةَ أَكْيَاسٍ فِي كُلِّ كِيسٍ أَلْفُ دِينَارٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَذَا مِيرَاثٌ حَلَالٌ فَخُذْهَا، وَاسْتَعِنْ بِهَا عَلَى عَائِلَتِكَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، أَنَا فِي كِفَايَةٍ ; فَرَدَّهَا، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَبِي كَثِيرًا فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute