السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ! ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ الْأَصْبَغِ: كُنْتُ بِبَغْدَادَ فَسَمِعْتُ ضَجَّةً فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ ! فَقَالُوا: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُمْتَحَنُ، فَدَخَلْتُ فَلَمَّا ضُرِبَ سَوْطًا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ الثَّانِي قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ الثَّالِثَ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَلَمَّا ضُرِبَ الرَّابِعَ قَالَ: لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا! فَضُرِبَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ سَوْطًا، وَكَانَتْ تِكَّةُ أَحْمَدَ حَاشِيَةَ ثَوْبٍ فَانْقَطَعَتْ فَنَزَلَ السِّرْوَالُ إِلَى عَانَتِهِ فَرَمَى أَحْمَدُ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعِ مِنَ ارْتِقَاءِ السِّرْوَالِ، وَلَمْ يَنْزِلْ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ فَأَيَّ شَيْءٍ قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي مَلَأْتَ بِهِ الْعَرْشَ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الصَّوَابِ فَلَا تَهْتِكْ لِي سِتْرًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: مَا صَنَعَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ ضُرِبْتَ فَيَّ. قَالَ: قَلْتُ نَعَمْ يَا رَبِّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ هَذَا وَجْهِي فَانْظُرْ إِلَيْهِ فَقَدَ أَبَحْتُكَ النَّظَرَ إِلَيْهِ. رُوِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الشَّافِعِيُّ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ قَمِيصَهُ الَّذِي ضُرِبَ فِيهِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ فَغَسَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَشَرِبَ مَاءَهُ، وَهَذَا مِنْ أَجْلِ مَنَاقِبِهِ. قَالَ وَلَدُهُ صَالِحٌ: إِنَّهُ حَجَّ خَمْسَ حِجَجٍ ثَلَاثًا مِنْهَا رَاجِلًا، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَأْتَدِمُ بِالْخَلِّ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ أَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَفَ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَبَلَغَ مُقَامَ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَسْلَمَ يَوْمَ وَفَاتِهِ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ بِبَغْدَادَ يُزَارُ، وَيُتَبَرَّكُ بِهِ.
وَكُشِفَ لَمَّا دُفِنَ بِجَنْبِهِ بَعْضُ الْأَشْرَافِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَوُجِدَ كَفَنُهُ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ، وَجُثَّتُهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ.
[تَنْبِيهٌ] : اعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ تَفْضِيلُ كُتُبِ السُّنَنِ عَلَى مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ أَكْبَرُ الْمَسَانِيدِ، وَأَحْسَنُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إِلَّا مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ اخْتَصَرَهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا. وَقَالَ: مَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْجِعُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْنَدِ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ فَحَسَنٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَمِنْ ثَمَّ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَ الصِّحَّةَ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ فِي الضَّعْفِ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ قَدْ أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوْضُوعَاتِهِ، لَكِنْ تَعَقَّبَهُ فِي بَعْضِهَا بَعْضُهُمْ، وَفِي سَائِرِهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَحَقَّقَ نَفْيَ الْوَضْعِ عَنْ جَمِيعِ أَحَادِيثِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ انْتِقَاءً، وَتَحْرِيرًا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ يَلْتَزِمْ مُؤَلِّفُوهَا الصِّحَّةَ فِي جَمِيعِهَا كَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.
قَالَ: وَلَيْسَتِ الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَكْثَرَ ضَعْفًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ عَلَيْهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالسَّبِيلُ وَاحِدٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ مِنَ السُّنَنِ، لَا سِيَّمَا سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ، وَمُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، مِمَّا الْأَمْرُ فِيهِ أَشَدُّ، أَوْ بِحَدِيثٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا لَمْ يَشْتَرِطْ جَامِعُوهَا الصِّحَّةَ، وَالْحُسْنَ، وَتِلْكَ السَّبِيلُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّقْلِ، وَالتَّصْحِيحِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَإِنْ وُجِدَ أَهْلًا لِتَصْحِيحٍ أَوْ تَحْسِينٍ قَلَّدَهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ فَيَكُونُ كَحَاطِبِ لَيْلٍ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
(وَأَبِي عِيسَى) قِيلَ: يُكْرَهُ هَذِهِ التَّكْنِيَةُ: (مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى التِّرْمِذِيِّ) : بِكَسْرِ التَّاءِ، وَالْمِيمِ، وَبِضَمِّهِمَا، وَبِفَتْحِ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً لِمَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ عَلَى طَرَفِ جِيحُونَ نَهْرِ بَلَخَ. الْإِمَامُ الْحُجَّةُ الْأَوْحَدُ الثِّقَةُ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ أَخَذَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْهَا: الشَّمَائِلُ، وَهَذَا كِتَابُهُ الصَّحِيحُ أَحْسَنُ الْكُتُبِ، وَأَحْسَنُهَا تَرْتِيبًا، وَأَقَلُّهَا تَكْرَارًا، وَفِيهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَذَاهِبِ، وَوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَتَبْيِينِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصَّحِيحِ، وَالْحَسَنِ، وَالْغَرِيبِ، وَفِيهِ جَرْحٌ، وَتَعْدِيلٌ، وَفِي آخِرِهِ كِتَابُ الْعِلَلِ. وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ فَوَائِدَ حَسَنَةً لَا يَخْفَى قَدْرُهَا عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا ; وَلِذَا قِيلَ: هُوَ كَافٍ لِلْمُجْتَهِدِ، وَمُغْنٍ لِلْمُقَلِّدِ. بَلْ قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ: هُوَ عِنْدِي أَنْفَعُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَصِلُ لِلْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَهُمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا مِنْهُمَا إِلَّا الْعَالِمُ الْمُتَبَحِّرُ. وَقَوْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute