ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَذَانَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَدْ نَازَعَهُ كَثِيرُونَ، وَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ اهـ.
وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ هُوَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِأَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ إِعْلَامًا فَيَكُونُ أَصْلَ إِعْلَامِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَعَلَّهُ تُرِكَ أَيَّامَ الصِّدِّيقِ أَوْ أَوَاخِرَ زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا، فَلِهَذَا سَمَّاهُ عُمَرُ بِدْعَةً، وَتَسْمِيَتُهُ تَجْدِيدَ السُّنَّةِ بِدْعَةً عَلَى مِنْوَالِ مَا قَالَ فِي التَّرَاوِيحِ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ، هَذَا وَقَدْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: تَعَلَّقَ بِالْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ نَفَى أَنَّ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةً أَيْ: قَبْلِيَّةً، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا رَقِيَ الْمِنْبَرَ أَخَذَ بِلَالٌ فِي الْأَذَانِ، فَإِذَا أَكْمَلَهُ أَخَذَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْخُطْبَةِ، فَمَتَى كَانُوا يُصَلُّونَ السُّنَّةَ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ إِذَا فُرِغَ مِنَ الْأَذَانِ قَامُوا فَرَكَعُوا فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِأَنَّ خُرُوجَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالضَّرُورَةِ ; فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بَعْدَ مَا كَانَ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ وَهُمْ أَيْضًا كَانُوا يَعْلَمُونَ الزَّوَالَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤَذِّنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ; لِأَنَّ اعْتِمَادَهُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ اعْتِمَادُهُمُ اهـ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّهُ إِذَا أُذِّنَ الْأَوَّلُ تَرَكُوا الْبَيْعَ، وَسَعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: ٩] . قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا يَجِبُ السَّعْيُ وَتَرْكُ الْبَيْعِ إِذَا أُذِّنَ الْأَذَانُ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَزَمَنِ الشَّيْخَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لَكِنْ قَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْآنَ الَّذِي أُحْدِثَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ. قَالَ الشِّيمِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ اهـ.
وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا بِعُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ، وَتَرْكُ الشُّغْلِ الْمَانِعِ قَبْلَ أَذَانِ الْخُطْبَةِ ; لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ شَيْءٌ فَقَدَّرُوا الْأَذَانَ الْأَوَّلَ الَّذِي يَقَعُ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ وَالْأَرْبَعَةُ: قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ زَادَ النِّدَاءَ الثَّانِي، أَيْ بِاعْتِبَارِ الْأَحْدَاثِ. وَفِي رِوَايَةٍ سُمِّيَ بِالْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute