الْعَبْدِ سَلَّمَهَا إِلَى أَعْوَانِهِ الَّذِينَ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ. (حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ) مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ. (وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ) أَيِ: الْجَنِّيِّ. (وَيَخْرُجُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الرُّوحِ رِيحٌ أَوْ شَيْءٌ. (كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ) أَيْ: مِثْلِ أَطْيَبِهَا فَالْكَافُ مَثَلِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ هُوَ فَاعِلُ يَخْرُجُ، أَيْ: يَخْرُجُ مِنْهَا رَائِحَةٌ كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ. (وُجِدَتْ) أَيْ: تِلْكَ النَّفْحَةُ. (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) أَيْ: جَمِيعِهَا مُنْذُ خُلِقَتِ الدُّنْيَا إِلَى فَنَائِهَا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَيَصْعَدُونَ) أَيْ: أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَوْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا) هَذَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ أَوِ الرَّاوِي، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي رِوَايَةِ السُّيُوطِيِّ. (عَلَى مَلَأٍ) أَيْ: جَمْعٍ عَظِيمٍ. (مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيِ: الَّذِينَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. (إِلَّا قَالُوا) أَيِ: الْمَلَأُ. (مَا هَذَا الرَّوْحُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ: الرِّيحُ وَضَمِّهَا. (الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. (فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ) أَيْ: رُوحُهُ أَوْ رَوْحُهُ. (بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ) أَيْ: أَلْقَابِهِ وَأَوْصَافِهِ. (الَّتِي كَانُوا) أَيْ: أَهْلُ الدُّنْيَا. (يُسَمُّونَهُ) أَيْ: يَذْكُرُونَهُ. (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ. (فِي الدُّنْيَا حَتَّى) لَا يَزَالُ الْمَلَائِكَةُ يَسْأَلُونَ وَيُجَابُونَ كَذَلِكَ حَتَّى (يَنْتَهُوا بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الرُّوحِ. (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُنِّثَ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ، وَذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ اهـ.
الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَفِي الْقَامُوسِ الرُّوحُ بِالضَّمِّ مَا بِهِ حَيَاةُ الْأَنْفُسِ وَيُؤَنَّثُ. (فَتُفْتَحُ) بِالتَّأْنِيثِ أَيِ: السَّمَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُذكَّرَ فَالْجَارُّ نَائِبُ الْفَاعِلِ. (لَهُمْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ جُمِعَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُ بَلْ يَسْتَمِرُّونَ مَعَهُ اهـ. وَهُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُمْ لِلْمُسْتَفْتِحِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ قَوْلُهُ لَهُ عِلَّةً وَصِلَةً لِلْفِعْلِ، وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمَقْصُودِ ; فَالْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّغْلِيبُ فَيُرَاعَى الِاسْتِخْدَامُ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِ. (فَيُشَيِّعُهُ) أَيْ: يَسْتَقْبِلُهُ وَيَصْحَبُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي السَّمَاءِ (مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا) أَيْ: تَقْرُبُهَا وَتَدْنُو مِنْهَا وَهَكَذَا. (حَتَّى يُنْتَهَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَفْظُ بِهِ سَاقِطٌ، وَيَنْتَهِي بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ. (إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ) أَيِ: الْجَنَّةِ إِذْ هِيَ مُجَاوِرَةٌ لَهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نِهَايَةُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، وَالِاقْتِرَابُ إِلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ أَيْ: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. (فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: اكْتُبُوا) أَيْ: أَثْبِتُوا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اكْتُبُوا الْآنَ، وَإِنْ كُتِبَ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ وَنَقْلٍ صَرِيحٍ. (كِتَابَ عَبْدِي) بِالْإِضَافَةِ لِلتَّشْرِيفِ ; وَلِذَا قَالَ فِي الْكَافِرِ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ أَيِ: اجْعَلُوا كِتَابَةَ عَبْدِي بِكِتَابَةِ اسْمِهِ. (فِي عِلِّيِّينَ) أَيْ: فِي دَفْتَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدِيوَانِ الْمُقَرَّبِينَ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ فِيهِ كِتَابُ الْأَبْرَارِ، فَالْمُرَادُ بِكِتَابِ الْعَبْدِ صَحِيفَةُ أَعْمَالِهِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: أَيْ: فِي كِتَابِ عَبْدِي يَعْنِي أَنَّهُ فِي عِلِّيِّينَ، أَوْ فِي عَوَالٍ، أَوْ غُرَفٍ مِنَ الْجَنَّةِ مَآلًا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ، وَلِكُلِّ رُوحٍ بِجَسَدِهَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُشْبِهُ الِاتِّصَالَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَلْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ حَالُ النَّائِمِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَشَدَّ مِنْ حَالِ النَّائِمِ اتِّصَالًا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَقَرَّهَا فِي عِلِّيِّينَ أَوْ سِجِّينٍ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا عِنْدَ أَفَنِيَةِ قُبُورِهَا. قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا فِي التَّصَرُّفِ، وَتَأْوِي إِلَى مَحَلِّهَا مِنْ عِلِّيِّينَ أَوْ سِجِّينٍ. قَالَ: وَإِذَا نُقِلَ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرٍ إِلَى قَبْرٍ فَالِاتِّصَالُ الْمَذْكُورُ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَا لَوْ تَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الرُّوحُ مِنْ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ الَّذِي كَلَمْحِ الْبَصَرِ، مَا يَقْتَضِي عُرُوجَهَا مِنَ الْقَبْرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي أَدْنَى لَحْظَةٍ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ رُوحُ النَّائِمِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُوحَ النَّائِمِ تَصْعَدُ حَتَّى تَخْتَرِقَ الطِّبَاقَ، وَتَسْجُدُ لِلَّهِ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى جَسَدِهِ فِي أَيْسَرِ زَمَانٍ؛ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: اكْتُبُوا كِتَابَ مَقَرِّ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ. (وَأَعِيدُوهُ) الْآنَ (إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: لِيَتَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَيَتَهَيَّأَ لِجَوَابِ السُّؤَالِ (فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ) أَيْ: أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ. (وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ) أَيْ: أَجْسَادَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute