للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِفَتْحِ التَّاءِ، وَضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: هَلْ تُدْرِكُونَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: بَهِيمَةٌ سَلِيمَةٌ مَقُولًا فِي حَقِّهِ هَذَا الْقَوْلِ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ يَعْنِي كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِظُهُورِ سَلَامَتِهَا، وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ أُخْرَى بِتَقْدِيرِهِ مَقُولًا فِي حَقِّهَا (مِنْ جَدْعَاءَ؟) : بِالْمُهْلَمَةِ أَيْ: مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا. قِيلَ: تَخْصِيصُ الْجَدْعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِنَّمَا كَانَ لِصَمِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ. (ثُمَّ يَقُولُ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ) أَبِي هُرَيْرَةَ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] الْآيَةَ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. أَقُولُ: وَكَذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الرَّازِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] . أَخْرَجَهُ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ. كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ ثُمَّ قَرَأَ، فَعَدَلَ إِلَى الْقَوْلِ، وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ اسْتِحْضَارًا كَأَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْآنَ اهـ.

وَفِيهِ: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ لِلْعُدُولِ إِلَى الْقَوْلِ، فَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ: ثُمَّ قَرَأَ فَعَدَلَ عَنْهُ لَفْظًا، إِشَارَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ اللَّفْظَ الْقُرْآنِيَّ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ صَارِفٌ لَهُ عَنِ الْقُرْآنِيَّةِ اهـ.

وَيُؤَيِّدُهُ تَرْكُ الِاسْتِعَاذَةِ فِي ابْتِدَائِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (فِطْرَةَ اللَّهِ) أَيِ: الْزَمُوهَا، وَهِيَ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعْرِفَةِ {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] أَيْ: خَلَقَهُمُ ابْتِدَاءً وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهَا {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠] أَيْ: فِيكُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَوِ الْغَالِبُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُبَدَّلُ، أَوْ يُقَالُ الْخَبَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مَحْضًا لِحُصُولِ التَّبْدِيلِ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: هَذَا عِنْدَنَا حَيْثُ أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَقَالُوا: بَلَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُكْتَسَبُ بِالْإِرَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ) ، فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مَعَ وُجُودِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ فِيهِ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ. قِيلَ: وَتَلْخِيصُهُ أَنَّ الْعَالَمَ إِمَّا عَالَمُ الْغَيْبِ، وَإِمَّا عَالَمُ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا نَزَلَ الْحَدِيثُ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ أَشْكَلَ مَعْنَاهُ، وَإِذَا صُرِفَ إِلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي عَلَيْهِ مَبْنَى ظَاهِرِ الشَّرْعِ سَهُلَ تَعَاطِيهِ، وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ النَّاظِرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْمَوْلُودِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى الْخِلْقَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنَ الْاسْتِعْدَادِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَقَبُولِ الْحَقِّ، وَالتَّأَبِّي عَنِ الْبَاطِلِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، حَكَمَ بِأَنَّهُ إِنْ تُرِكَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَوِرْهُ مِنَ الْخَارِجِ مَا يَصُدُّهُ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْإِلْفِ بِالْمَحْسُوسَاتِ، وَالِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَلَمْ يَخْتَرْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَيَنْظُرْ مَا نُصِبَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ نَظَرًا صَحِيحًا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْحَقِّ، وَيَهْدِيهِ إِلَى - الرُّشْدِ، وَعَرَفَ الصَّوَابَ، وَاتَّبَعَ الْحَقَّ، وَدَخَلَ فِي الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا سِوَاهَا، لَكِنْ يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَالُ هَذِهِ الْعَوَائِقِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أُمُّ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَظَرَ إِلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَظَاهِرِ الشَّرْعِ فَأَنْكَرَ، وَالْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَظَرَ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا فَقَتَلَهُ، وَلِذَلِكَ اعْتَذَرَ الْخَضِرُ بِالْعِلْمِ الْخَفِيِّ الْغَائِبِ أَمْسَكَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الِاعْتِرَاضِ كَذَا قَالُوهُ، وَلَعَلَّ مَعْنَى أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا أَيْ: خُلِقَ، وَقُدِّرَ، وَجُبِلَ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ يَصِيرُ كَافِرًا؟ لِئَلَّا يُنَاقِضَهُ هَذَا الْحَدِيثُ. (ذَلِكَ) ، أَيِ: التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْفِطْرَةِ هُوَ (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ: الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ لَهُ، وَلَا مَيْلَ إِلَى تَشْبِيهٍ وَتَعْطِيلٍ وَلَا قَدَرٍ، وَلَا جَبْرٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>