للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٩١ - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

٩١ - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَكَانَ إِذَا وَعَظَ قَامَ (بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ) : وَالْكَلِمَةُ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ أَيْ: مُتَفَوِّهًا بِخَمْسِ فُصُولٍ، وَقِيلَ قَامَ فِينَا كِنَايَةً عَنِ التَّذْكِيرِ أَيْ: خَطَبَنَا، وَذَكَّرَنَا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلَهُ: فِينَا، وَبِخَمْسٍ إِمَّا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَانِ. أَيْ: قَامَ خَطِيبًا مُذَكِّرًا لَنَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ فِينَا بِقَامَ عَلَى تَضْمِينِ قَامَ مَعْنَى خَطَبَ، وَيَكُونُ بِخَمْسٍ حَالًا، وَقَامَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِخَمْسٍ بِقَامَ، وَيَكُونُ فِينَا بَيَانًا، كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ قَامَ بِخَمْسٍ قِيلَ فِي حَقِّ مَنْ؟ فَقِيلَ: فِي حَقِّنَا، وَعَلَى هَذَا قَامَ بِمَعْنَى قَامَ بِالْأَمْرِ أَيْ: تَشَمَّرَ لَهُ أَيْ: قَامَ بِحِفْظِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ فِينَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُ الْحَقِيقَةَ حَدِيثُ: كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْصَرِفُ إِلَيْنَا بَعْدَ الْعِشَاءِ فَيُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَفِيهِ أَنَّ كَوْنَ الْقِيَامِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ الْمَقَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِمْرَارَهُ فِي الْمَرَامِ. (فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ) : قَالَ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: ٢٥٥] وَالسِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَهُوَ نَوْمٌ خَفِيفٌ، أَوْ مُقَدِّمَةُ النَّوْمِ (وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ) : نَفْيٌ لِلْجَوَازِ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ الْوُقُوعِ عَلَى سَبِيلِ التَّتْمِيمِ أَيْ: لَا يَكُونُ، وَلَا يَصِحُّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا يُمْكِنُ لَهُ النَّوْمُ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ النَّوْمَ لِاسْتِرَاحَةِ الْقُوَى، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْخَمْسِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: اعْتِرَاضٌ فَتَأَمَّلْ.

وَالثَّالِثَةُ: هِيَ قَوْلُهُ: (يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْقِسْطَ بِالرِّزْقِ أَيْ يُقَتِّرُهُ، وَيُوَسِّعُهُ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الرِّزْقِ لِأَنَّهُ قِسْطُ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَيْ: نَصِيبُهُ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْمِيزَانِ، وَيُسَمَّى الْمِيزَانُ قِسْطًا لِمَا يَقَعُ بِهِ مِنَ الْمَعْدَلَةِ بِالْقِسْطِ أَيْ: فِي الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَرْفَعُ الْمِيزَانَ وَيَخْفِضُهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمِيزَانِ مَا يُوزَنُ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ النَّازِلَةِ مِنْ عِنْدِهِ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُرْتَفِعَةِ إِلَيْهِ يَعْنِي: فَيَخْفِضُهُ تَارَةً بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ، وَالْخُذْلَانِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَرْفَعُهُ أُخْرَى بِتَوْسِيعِ الرِّزْقِ، وَالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ. وَفِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ هُنَا، وَفِيمَا بَعْدَهُ تَضَادٌّ وَمُطَابَقَةٌ، وَهُمَا مُسْتَعَارَانِ مِنَ الْمَعَانِي مِنَ الْأَعْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى بِمَا شُوهِدَ مِنْ وَزْنِ الْمِيزَانِ الَّذِي يَزِنُ فَيَخْفِضُ يَدَهُ، وَيَرْفَعُهَا. قِيلَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ أَيْ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ أَبَدًا فِي مُلْكِهِ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ.

وَالرَّابِعَةُ: (يُرْفَعُ إِلَيْهِ) : قَالَ الْقَاضِي أَيْ: إِلَى خَزَائِنِهِ كَمَا يُقَالُ حُمِلَ الْمَالُ إِلَى الْمَلِكِ (عَمَلُ اللَّيْلِ) أَيِ: الْمَعْمُولُ فِيهِ (قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى - " بِعَمَلِ النَّهَارِ فَيُضْبَطُ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَوْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ لِيَأْمُرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِمْضَاءِ مَا قُضِيَ لِفَاعِلِهِ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَقْبَلُ اللَّهُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ عِبَارَةً عَنْ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ (وَعَمَلُ النَّهَارِ) : عَطْفٌ عَلَى عَمَلِ اللَّيْلِ (قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) : إِشَارَةً إِلَى السُّرْعَةِ فِي الرَّفْعِ، وَالْعُرُوجُ إِلَى مَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ لَا فَاصِلَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ: قَبْلَ رَفْعِ عَمَلِ اللَّيْلِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ بَيَانٌ لِمُسَارَعَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِرَفْعِ أَعْمَالِ النَّهَارِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاللَّيْلِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَلِيلِ تِلْكَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ: أَنَّ مَسِيرَةَ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ الدُّنْيَا خَمْسُمَائَةِ سَنَةٍ، وَمَا بَيْنَ كُلٍّ سَمَاءَيْنِ كَذَلِكَ، وَسُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ كَذَلِكَ، وَتَقْدِيرُ رَفَعَ فِي الْأَوَّلِ، وَرَفَعَ أَوْ فَعَلَ فِي الثَّانِي هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: إِنَّ أَعْمَالَ النَّهَارِ تُرْفَعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَأَعْمَالَ اللَّيْلِ تُرْفَعُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَا يَقَعُ رَفْعُ عَمَلِ اللَّيْلِ إِلَّا بَعْدَ فِعْلٍ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ، وَأَمَّا رَفْعُ عَمَلِ النَّهَارِ فَيَقَعُ قَبْلَ فِعْلِ أَوْ رَفْعِ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ ابْتِدَاءِ رَفْعِهَا، وَعَمَلِ اللَّيْلِ فَاصِلًا يَسَعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ تَقْدِيرُ رَفَعَ؛ وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ فَعَلَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ يَصِحُّ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ أَقْصَرُ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ لِتَعْلَمْ فَسَادَ مَا أَطْلَقَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ اهـ. كَلَامَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>