للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَتَحَقَّقْ بِدَرَجَةِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: ٦٢ - ٦٣] وَمِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ: مِنْ أَمَارَاتِ وَلَايَتِهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَنْ يُدِيمَ تَوْفِيقَهُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ سُوءًا أَوْ قَصَدَ مَحْظُورًا عَصَمَهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَلَوْ جَنَحَ إِلَى تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ أَبَى إِلَّا تَوْفِيقًا لَهُ وَتَأْيِيدًا. وَهَذَا مِنْ أَمَارَاتِ السَّعَادَةِ، وَعَكْسُ هَذَا مِنْ أَمَارَاتِ الشَّقَاوَةِ، وَمِنْ أَمَارَاتِ وَلَايَتِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ مَوَدَّةً فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِذَا رَأَى فِي قُلُوبِهِمْ لِعَبْدٍ مَحَلًّا يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِاللُّطْفِ، وَإِذَا رَأَى هِمَّةَ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ لِشَأْنِ عَبْدٍ، أَوْ سَمِعَ دُعَاءَ وَلِيٍّ فِي شَأْنِ شَخْصٍ يَأْبَى إِلَّا الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَجْرَى بِذَلِكَ سُنَّتَهُ الْكَرِيمَةَ.

وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَرَّ بِبَلْدَةٍ لَنَالَ بَرَكَةَ مُرُورِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَمِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْوِلَايَةِ أَنَّ أَهْلَهَا مُنَزَّهُونَ عَنِ الذُّلِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: ١١١] فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِزِّ مَوْلَاهُمْ فِي دُنْيَاهِمْ وَأُخْرَاهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَعَلَنَا مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

(الْحَمِيدُ) : أَيِ: الْمَحْمُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ، فَإِنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ وَالْمُولِي لِكُلِّ نَوَالٍ، الْمَشْكُورُ بِكُلِّ فِعَالٍ فَهُوَ الْمَحْمُودُ الْمُطْلَقُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: ٤٤] بِبَيَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَقِيلَ: حَمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ بِالثَّنَاءِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ أَزَلًا، وَيَحْمَدُهُ عِبَادُهُ بِمَا أَلْهَمَهُمْ بِهِ أَبَدًا، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ سَرْمَدًا، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفَعِيلِ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَلِذَا قَالَ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ: ( «سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ) . وَحَظُّكَ مِنْهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الْحِكَمِ: الْمُؤْمِنُ يَشْغَلُهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ شَاكِرًا، وَتَشْغَلُهُ حُقُوقُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِحُقُوقِهِ ذَاكِرًا، فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا كَثْرَةُ حَمْدِكَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَتَخَلُّقًا بِأَنْ تَجْتَهِدَ فِي التَّحَلِّي بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: حَمْدُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ شُكْرُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى شُهُودِ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ هِيَ الْغَيْبَةُ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ عَنْ شُهُودِ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ: إِلَهِي كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ الْآنَ قَدْ شَكَرْتَنِي، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ شُكْرٌ، كَمَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ، ثُمَّ كَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ فِي نِعْمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ شُكْرُهَا، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي مِحْنَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْهَا، فَإِنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ مَا يُوصِلُكَ إِلَى الْمُنْعِمِ لَا مَا يَشْغَلُكَ عَنْهُ، فَالنِّعَمُ لَا تَكُونُ إِلَّا دِينِيَّةً، نَعَمْ إِذَا كَانَ مَعَهَا رَاحَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ فَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ وَسُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ، وَمِنْهُ دُعَاءُ السَّيِّدِ الشَّاذِلِيِّ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ أُمُورَنَا مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ التَّوْفِيقَ لِلشُّكْرِ بِصَرْفِ النِّعْمَةِ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ فِيهَا وَنُعِمَتْ، وَإِلَّا انْقَلَبَتِ الْمِنْحَةُ مِحْنَةً، وَلِذَا فُسِّرَ الْبَلَاءُ بِالنِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: ٤٩] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: ٨٢] فَهُوَ كَالنِّيلِ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ وَدِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ.

(الْمُحْصِي) : أَيِ: الْعَالِمُ الَّذِي يُحْصِي الْمَعْلُومَاتِ وَيُحِيطُ بِالْمَوْجُودَاتِ إِحَاطَةَ الْعَادِّ بِمَا يَعُدُّهُ، وَالضَّابِطُ بِمَا يَضْبِطُهُ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إِحْصَاءُ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوُصُولُ إِلَى بَعْضِ الْمَعْدُودَاتِ، لَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إِحْصَاءِ أَكْثَرِهَا وَضَبْطِ غَالِبِهَا، فَجَهْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَلَمِهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥] فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْصِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْصَى، وَيَتَلَافَى مَقَابِحَ أَعْمَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَقْصَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ أَوِ الْقُدْرَةِ وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْكَ غَفْلَةٌ فِي سُكُونٍ وَحَرَكَةٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ. وَتَقَرُّبُكَ مِنْهُ تَعَلُّقًا أَنْ تَحَاسِبَ نَفْسَكَ فِي جَمِيعِ أَنْفَاسِكَ بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِيهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>