للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نَفَسٌ إِلَّا فِي طَاعَةٍ، لِمَا وَرَدَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلِمَا قِيلَ: الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً. وَتَخَلُّقًا أَنْ تَتَكَلَّفَ عَدَّ النِّعَمِ الَّتِي أَوْصَلَهَا إِلَيْكَ لِتَعْرِفَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِ مَا عَلَيْكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: ٣٤] أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا فَضْلًا عَنْ شُكْرِهَا. رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَعُدُّ تَسْبِيحًا لَهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَعُدُّ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعُدُّ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ أَيَّامَهُ، وَيَعُدَّ آثَامَهُ، فَيَشْكُرَ جَمِيلَ مَا يُوَلِّيهِ، وَيَتَعَذَّرَ عَنْ قُبْحِ مَا يَأْتِيهِ، وَيَذْكُرَ الْأَيَّامَ الْخَالِيَةَ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَتَأَسَّفَ عَلَى الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الْغَفَلَاتِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا أَنْفَسَ مِنَ الْوَقْتِ إِذْ مَا مِنْ نَفِيسِ غَيْرِهِ إِلَّا وَيُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ بِخِلَافِهِ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُمُ: الْوَقْتُ سَيْفٌ قَاطِعٌ، وَالْوَقْتُ كَالسَّيْفِ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ قَطَعَكَ، إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِالْعِبَادَةِ قَطَعَكَ بِالْبَطَالَةِ، وَقَوْلُهُمُ: الصُّوفِيُّ ابْنُ الْوَقْتِ وَأَبُو الْوَقْتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ، وَبِغَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ حَقِيقٌ.

(الْمُبْدِئُ) : بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَقْفًا، وَهُوَ الْمُظْهِرُ لِلْكَائِنَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَالِقِ، أَوْ هُوَ الْمُنْشِئُ لِلْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: (الْمُعِيدُ) : أَيِ الَّذِي يُعِيدُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَمَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الْأُخْرَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمُعِيدُ لِلْمُحْدَثَاتِ بَعْدَ انْعِدَامِ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: الْإِعَادَةُ خَلْقُ مِثْلِهِ لَا إِعَادَةُ عَيْنِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَقْدُورًا قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُ، فَإِذَا عَدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ أَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ جَمْعَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِذَا بَعَثَ الْخَلْقَ وَحَشَرَهُمْ فَقَدْ أَعَادَهُمْ. اهـ.

وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَنْعَدِمُ بَلْ تَتَفَرَّقُ، ثُمَّ يَجْمَعُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيُؤَلِّفُهَا عَلَى الْمِنْهَاجِ الْأَوَّلِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَنْعَدِمُ إِلَّا بَعْضًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، ثُمَّ تُعَادُ بِعَيْنِهَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَفْنَى إِلَّا عَجَبَ الذَّنَبِ» ". وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْحَقُّ إِعَادَةُ مَا انْعَدَمَ بِعَيْنِهِ وَتَأْلِيفُ مَا تَفَرَّقَ. اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَالْإِعَادَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِعَادَةُ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى أَشْبَاحِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُمَا اسْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ يَتِمُّ بِالثَّانِي وَمَرْجِعُهُمَا إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعْلِيقًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، كَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ، وَكَذَا الْمُعِزُّ وَالْمُذِلُّ، وَالْقَابِضُ وَالْبَاسِطُ، وَشَبِيهُ مَا سَيَأْتِي مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ كَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتِ، وَالْمُقَدِّمِ وَالْمُؤَخِّرِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ قَوْلَهُ: هُمَا اسْمٌ وَاحِدٌ يُنَافِي النَّصَّ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ أَنَّهُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ رَجَعْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ كُلِّ مَوْجُودٍ:

فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ.

وَتَقَرُّبُكَ بِهِمَا تَعَلُّقًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرْمًى، وَالتَّعَوُّذُ بِهِ مِنْ كُلِّ مَهْوًى، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَعُودَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْبِدَايَةِ، وَتَرُدَّ النَّفْسَ مِنْهَا إِلَى الْهِدَايَةِ وَلِذَا قِيلَ: النِّهَايَةُ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ.

(الْمُحْيِي الْمُمِيتُ) : هُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى صِفَةِ الْأَفْعَالِ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: ٢] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: ١٩] ، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: ٣١] وَقَرَأَ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَ تَشَرُّفِهِ بِالْإِسْلَامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحْيِي الْقُلُوبَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، كَمَا أَنَّهُ يُمِيتُهَا بِالْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَاللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: ١٢٢] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» " وَمِنْ كَلَامِهِمْ: هُوَ مَنْ أَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَأَرْوَاحَهُمْ بِأَلْطَافِ مُشَاهَدَتِهِ، وَأَمَاتَ الْقُلُوبَ بِالْغَفْلَةِ، وَالنُّفُوسَ بِالشَّهْوَةِ فَهُوَ تَعَالَى خَالِقُ الْحَيَاةِ وَمُدِيمُهَا، وَمُقَدِّرُ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ عَدِيمُهَا، وَمِنَ الْمَجَازِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ» ".

<<  <  ج: ص:  >  >>