قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِحْيَاءُ خَلْقُ الْحَيَاةِ فِي الْجِسْمِ، وَالْإِمَاتَةُ إِزَالَتُهَا عَنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ، وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ بِالْفَاعِلِ. قُلْتُ: الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمُتَجَدِّدُ فَهُوَ بِالْفَاعِلِ، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ لَا يَفْعَلُ الْهَدْمَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: ٢٨] أُسْنِدَ الْمَوْتُ الثَّانِي إِلَى فِعْلِهِ دُونَ الْمَوْتِ الْأَوَّلِ الْمُرَادِ بِهِ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ لَا تَهْتَمَّ بِحَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ، بَلْ تَكُونَ مُفَوِّضًا مُسْتَسْلِمًا لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ قَائِلًا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتُوفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» " قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَحْيَاهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أَمَاتَهُ وَأَفْنَاهُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ أَحْيَاهُ وَمَنْ غَيَّبَهُ أَمَاتَهُ وَأَفْنَاهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا ... فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ.
(" الْحَيُّ) : أَيْ ذُو الْحَيَاةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ الْفَعَّالُ الدَّرَّاكُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا لِأَجْلِهَا صَحَّ لِذَاتِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَيُقَدَّرَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَنْ يُعْلَمَ وَيُقَدَّرَ هَذَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَعِبَارَةٌ عَنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الْمَخْصُوصِ بِجِنْسِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: هِيَ الْقُوَّةُ التَّابِعَةُ لَهُ الْمُعَدَّةُ لِقَبُولِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ حَيًّا بِاللَّهِ حَتَّى لَا يَمُوتَ لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ، وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: ١٦٩] الْآيَةَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ تَعَالَى حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَعَالِمٌ وَقَدِيرٌ صَحَّحَ تَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: ٥٨] لِأَنَّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَخْلُوقٍ وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ لِيَوْمِ حَاجَتِهِ احْتَمَلَ وَفَاتَهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَيَضِيعُ رَجَاؤُهُ وَأَمَلُهُ لَدَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِيِ الْغَاسِلِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تُحْيِيَ الْقُلُوبَ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِكَ، وَالْأَرْوَاحَ بِأَسْرَارِ مُشَاهَدَتِكَ.
(الْقَيُّومُ) : أَيِ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قِوَامَهُ بِذَاتِهِ لَا يَتَوَقَّفُ بِوَجْهٍ مَا عَلَى غَيْرِهِ، وَقِوَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ لِلْأَشْيَاءِ وُجُودٌ وَدَوَامٌ إِلَّا بِوُجُودِهِ تَعَالَى، وَلِلْعَبْدِ فِيهِ مَدْخَلٌ بِقَدْرِ اسْتِغْنَائِهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ لِلنَّاسِ، وَكَانَ مَفْهُومُهُ مُرَكَّبًا مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الِأَفْعَالِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرِفَ أَنَّهُ الْقَيُّومُ اسْتَرَاحَ عَنْ كَدِّ التَّدْبِيِرِ وَتَعَبِ الْأَشْغَالِ، وَعَاشَ بِرَاحَةِ التَّفْوِيضِ، فَلَمْ يَضِنَّ بِشَيْءٍ بِتَكْرِيمِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي قَلْبِهِ لِلدُّنْيَا كَثْرَةَ قِيمَةٍ، وَهُوَ (فَيْعُولٌ) لِلْمُبَالَغَةِ كَالدَّيُّومِ. قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: قَيُّومٌ لَا يَعْتَرِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغَيُّرُ فَالزِّيَادَةُ لِقُصُورٍ عَنِ الْغَايَةِ، وَالنُّقْصَانُ لِتَخَلُّفٍ عَنِ النِّهَايَةِ، وَهُوَ خَالِقُ الْغَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ.
(الْوَاجِدُ) : بِالْجِيمِ أَيِ: الَّذِي يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ وَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَنِيُّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوُجْدِ. قَالَ تَعَالِيَ: {أَسْكَنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: ٦] كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا مُرَادِفٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا مُغَايِرَ لَهُ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الشَّارِحِ - فَوَهْمٌ مِنْهُ وَسَهْوٌ عَنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْوَجْدُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا يُصَادِفُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَطَلُّبٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْوَجْدُ لَهِيبٌ يَنْشَأُ فِي الْأَسْرَارِ وَيَنْسَلِخُ عَنِ الشَّوْقِ فَتَضْطَرِبُ الْجَوَارِحُ طَرَبًا أَوْ حُزْنًا عِنْدَ ذَلِكَ الْوَارِدِ، وَقِيلَ: الْوَجْدُ وُجُودُ نَسِيمِ الْحَبِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: ٩٤] قُلْتُ: وَكَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ فِي الْكُتُبِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَإِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute