للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ: التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقِدَمِ مِنَ الْحَدَثِ، وَقِيلَ: التَّوْحِيدُ إِسْقَاطُ الْإِضَافَاتِ بِنُورِ الْخَلْقِ لِظُهُورِ الْحَقِّ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُفْرِدَ قَلْبَكَ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» ". قِيلَ: الْوِتْرُ هُنَا الْقَلْبُ الْمُنْفَرِدُ لَهُ تَعَالَى، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ فِي الْحُسْنِ وَاحِدًا ... فَكُنْ وَاحِدًا فِي الْحُبِّ إِنْ كُنْتَ تَهْوَاهُ.

(الصَّمَدُ) : أَيِ: السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ السُّؤْدُدُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ يَعْتَرِيَهُ آفَةٌ، وَقِيلَ: الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ، وَقِيلَ: الدَّائِمُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ وَيُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِبِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَمَنْ كَانَ يَقْصِدُهُ النَّاسُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُمْ مِنْ مَهَامِّ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَلَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَصْفِ، وَمَنْ رَسَخَ فِي التَّوْحِيدِ وَصَارَ مُتَصَلِّبًا فِي الدِّينِ لَا يَتَزَلْزَلُ بِتَقَادُمِ الشُّبُهَاتِ وَتَعَاقُبِ الْبَلِيَّاتِ، فَقَدْ حَظِيَ مِنْهُ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ حَقِّ مَنْ عَرَفَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ بِالْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ وَشَدِّ الِارْتِحَالِ وَيُلَاحِظَ الْكَوْنَ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ وَالِانْتِقَالِ فَيَزْهَدَ فِي حُطَامِهَا، وَلَا يَرْغَبَ فِي حَلَالِهَا، فَضْلًا عَنْ حَرَامِهَا. وَمِنْ حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ أَنْ يُوَجِّهَ رَغَبَاتَهُ عِنْدَ مَآرِبِهِ إِلَيْهِ، وَيَصْدُقُ تَوَكُّلُهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ. فَلَا يَهْتَمُّ فِي رِزْقِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِنْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ كَذَلِكَ لَا يُشَارِكُهُ فِي رِزْقِهِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ شَكَا إِلَيْهِ حَاجَتَهُ وَفَاقَتَهُ وَرَفَعَ إِلَيْهِ، وَتَعَلَّقَ بِجَمِيلِ تَصَرُّفِهِ وَتَقَرَّبَ بِصُنُوفِ تَوَسُّلِهِ.

(الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ) : مَعْنَاهُمَا ذُو الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُقْتَدِرَ أَبْلَغُ لِمَا فِي الْبِنَاءِ مِنْ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالِاكْتِسَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنِ امْتَنَعَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، لَكِنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى مُبَالَغَةً، فَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الِاسْمَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ حَقَّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَالِغُ فِي الْقُدْرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: زَعْمُ اسْتِوَاءِ الِاسْمَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بَعِيدٌ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى، وَالِاخْتِلَافَ فِي الْمَبْنَى، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ بِنَفْسِهِ أَنَّ مَعْنَى التَّكْلِفَةِ وَالِاكْتِسَابِ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى بِهِمَا: نَفْيُ الْعَجْزِ عَنْهُ فِيمَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ بِالْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْ حَقِّهِمَا أَنْ لَا يُوصَفَ بِهِمَا مُطْلَقًا غَيْرُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ بِالذَّاتِ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمَا عَدَاهُ فَإِنَّمَا يَقْدِرُ بِإِقْدَارِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَحَقِيقٌ بِهِ أَنْ لَا يُقَالَ لَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ إِلَّا مُقَيَّدًا، أَوْ عَلَى قَصْدِ التَّقْيِيدِ.

(الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ) : مَعْنَاهُمَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ وَيُبْعِدُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ فَقَدْ قَدَّمَهُ، وَمَنْ أَبْعَدَهُ فَقَدْ أَخَّرَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الْأَشْيَاءَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا بِالذَّاتِ كَتَقَدُّمِ الْبَسَائِطِ عَلَى الْمُرَكَّبَاتِ، وَإِمَّا بِالْوُجُودِ كَتَقْدِيمِ الْأَسْبَابِ عَلَى الْمُسَبَّبَاتِ، أَوْ بِالشَّرَفِ وَالْقُرْبَةِ كَتَقَدُّمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ، أَوْ بِالْمَكَانِ كَتَقَدُّمِ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ عَلَى السُّفْلِيَّةِ، أَوْ بِالزَّمَانِ كَتَقَدُّمِ الْأَطْوَارِ وَالْقُرُونِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الْمُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ الْأَبْرَارَ بِفُنُونِ الْمَبَارِّ، وَالْمُؤَخِّرُ مَنْ أَخَّرَ الْفَجَرَةَ وَشَغَلَهُمْ بِالْأَغْيَارِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَهُمَّ بِأَمْرِهِ فَيُقَدِّمُ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.

(الْأَوَّلُ) : أَيِ: الَّذِي لَا بِدَايَةَ لِأَوَّلِيَّتِهِ. (الْآخِرُ) : أَيِ: الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلِيقَتِهِ، وَلَا نِهَايَةَ لِآخِرِيَّتِهِ، فَمِنْهُ الْأَمْرُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ.

(الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ) : أَيِ: الَّذِي ظَهَرَ ظَاهِرُ وُجُودِهِ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَاحْتَجَبَ كُنْهُ ذَاتِهِ عَنِ الْعُقُولِ الْمَاهِرَةِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ الَّذِي ظَهَرَتْ شَوَاهِدُ وَجُودِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي ظَهَرَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي عُرِفَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِهِ. وَالْبَاطِنُ: هُوَ الْمُحْتَجِبُ عَنْ بَصَرِ الْخَلْقِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ بِحُجُبِ كِبْرِيَائِهِ، فَلَا يُدْرِكُهُ بَصَرٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ وَهْمٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ يُقَالُ: بَطِنْتُ الْأَمْرَ: إِذَا عَرَفْتَ بَاطِنَهُ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ بِنِعْمَتِهِ الْبَاطِنُ بِرَحْمَتِهِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ لِقَوْمٍ فَلِذَلِكَ وَحَّدُوهُ، وَالْبَاطِنُ عَنْ قَوْمٍ فَلِذَلِكَ جَحَدُوهُ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ بِالْقُدْرَةِ وَالْبَاطِنُ عَنِ الْفِكْرَةِ وَقِيلَ الْأَوَّلُ بِلَا مَطْلَعٍ وَالْآخِرُ بِلَا مَقْطَعٍ وَالظَّاهِرُ بِلَا اقْتِرَابٍ وَالْبَاطِنُ بِلَا احْتِجَابٍ، وَلَعَلَّ الْإِتْيَانَ بِهَا فِي الْآيَةِ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَإِشْعَارٌ بِرَفْعِ وَهْمِ التَّنَاقُضِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَفِيَ تَعَالَى مَعَ ظُهُورِهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، فَظُهُورُهُ سَبَبٌ لِبُطُونِهِ، وَنُورُهُ حِجَابُ نُورِهِ، وَكُلُّ مَا جَاوَزَ عَنْ حَدِّهِ انْعَكَسَ عَلَى ضِدِّهِ، وَفِي الْحُكْمِ أَظْهَرَ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ الْبَاطِنُ، وَطَوَى وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّهُ الظَّاهِرُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>