الْأَخْلَاقِ، وَيَصْرِفُ قُلُوبَهُمْ إِلَى ابْتِغَاءِ مَا فِيهِ رِضَا الْخَلَّاقِ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى اسْتِصْغَارِ قَدْرِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَسْتَرِقَّهُمْ ذُلُّ الطَّمَعِ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى غَيْرِ بَابِ الْمَوْلَى، وَالْهِدَايَةُ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ ثَانِي الْهِدَايَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الدِّينَ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ.
(الْبَدِيعُ) : أَيِ: الْمُبْدِعُ الَّذِي أَتَى بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، أَوِ الَّذِي أَبْدَعَ الْأَشْيَاءَ أَيْ أَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْبَدِيعُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ. قِيلَ: مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَصْلُ مَذْهَبِنَا ثَلَاثَةٌ. الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَصِدْقِ الْمَقَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ دَاهَنَ مُبْتَدِعًا سَلَبَ اللَّهُ حَلَاوَةَ السُّنَنِ مِنْ عَمَلِهِ، وَمَنْ ضَحِكَ إِلَى مُبْتَدِعٍ نَزَعَ اللَّهُ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ.
(الْبَاقِي) : أَيِ: الدَّائِمُ الْوُجُودِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْفَنَاءَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: حَقِيقَةُ الْبَاقِي مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَاقِيًا بِبَقَاءِ غَيْرِهِ، وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ تَشْتَدَّ بِهِ الْعِنَايَةُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعَبْدُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ ذَاتِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِعِلْمِ الْحَقِّ، وَلَا قَادِرًا بِقُدْرَتِهِ، وَلَا سَمِيعًا بِسَمْعِهِ، وَلَا بَصِيرًا بِبَصَرِهِ، وَلَا بَاقِيًا بِبَقَائِهِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ لَا يَجُوزُ قِيَامُهَا بِالذَّاتِ الْحَادِثَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْحَادِثَةِ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ، وَحِفْظُ هَذَا الْبَابِ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْصِيلَ لَهُ وَلَا تَحْقِيقَ زَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الْحَقِّ، سَمِيعًا بِسَمْعِهِ، وَبَصِيرًا بِبَصَرِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ، وَانْسِلَاخٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا فِي نُصْرَةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ بِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا، بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ» ، وَلَا احْتِجَاجَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعِي وَيُبْصِرُ بِبَصَرِي، بَلْ قَالَ: بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ. قَالَ النَّصْرُ آبَاذِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى بَاقٍ بِبَقَائِهِ وَالْعَبْدُ بَاقٍ بِإِبْقَائِهِ، وَلَقَدْ حَقَّقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَصَّلَ وَأَخَذَ عَنْ كَمِّيَّةِ الْمَسْأَلَةِ وَفَصَّلَ.
(الْوَارِثُ) : الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْعِبَادِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ حِينَ يَقُولُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: ١٦] قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: ٤٠] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: ٨٩] فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْلَاكُ بَعْدَ فَنَاءِ الْمُلَّاكِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ الْعَامِّيِّ، وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَهُوَ الْمَلِكُ الْمَالِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا قِيلَ: الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ بِلَا تَوْرِيثِ أَحَدٍ وَالْبَاقِي الَّذِي لَيْسَ لِمُلْكِهِ أَمَدٌ.
(الرَّشِيدُ) : أَيِ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدَابِيرُهُ إِلَى غَايَتِهَا عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ بِلَا اسْتِشَارَةٍ وَإِرْشَادٍ، فَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى مَصَالِحِهِمْ أَيْ: هَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ بِمَعْنَى الْهَادِي، فَيَكُونُ إِرْشَادُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هِدَايَةَ نَفْسِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَقَلْبِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَرُوحِهِ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَسِرِّهِ إِلَى قُرْبَتِهِ، وَأَمَارَةُ مَنْ أَرْشَدَهُ الْحَقُّ لِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ أَنْ يُلْهِمَهُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضَ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ إِلَيْهِ.
جَاعَ ابْنُ أَدْهَمَ يَوْمًا فَأَمَرَ رَجُلًا بِرَهْنِ شَيْءٍ مَعَهُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ، فَخَرَجَ فَإِذَا بِإِنْسَانٍ مَعَهُ بَغْلَةٌ عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: هَذَا مِيرَاثُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَنَا غُلَامُهُ فَأْتِيَ بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَمَا مَعَكَ وَهَبْتُهُ لَكَ، فَانْصَرِفْ عَنِّي، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: يَا رَبِّ كَلَّمْتُكَ فِي رَغِيفٍ فَصَبَبْتَ عَلَيَّ الدُّنْيَا، فَوَحَقِّكَ لَئِنْ أَمَتَّنِي جُوعًا لَمْ أَتَعَرَّضْ لِطَلَبِ شَيْءٍ.
(الصَّبُورُ) : أَيِ: الَّذِي لَا يَعْجَلُ فِي مُؤَاخَذَةِ الْعُصَاةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَلِيمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ فِي صِفَةِ الصَّبُورِ كَمَا يَأْمَنُهَا فِي صِفَةِ الْحَلِيمِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا تَحْمِلُهُ الْعَجَلَةُ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْفِعْلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلِيمِ أَنَّ الصَّبُورَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُعَاقِبُ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْحَلِيمِ. وَأَصْلُ الصَّبْرِ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْمُرَادِ، فَاسْتُعِيرَ لِمُطْلَقِ التَّأَنِّي فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهُ غَايَتُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى عَدَدَ تِلْكَ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، لَكِنْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ، وَاخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي أَنَّ سَرْدَهَا هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرَّاوِي، أَوْ مَرْفُوعٌ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ تَعْدَادَهَا إِنَّمَا هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، لَكِنَّ الْمَوْقُوفَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قِيلَ: مَا مِنِ اسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ غَيْرَ لَفْظِ الصَّبُورِ، فَإِنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ» ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute