وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ مِنْ خَسَأْتُ الْكَلْبَ أَيْ: طَرَدْتُهُ، فَهُوَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى أَيِ: اجْعَلْهُ مَطْرُودًا عَنِّي وَمَرْدُودًا عَنْ إِغْوَائِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِضَافَةٌ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ قَرِينَةً مِنَ الْجِنِّ أَوْ مَنْ قَصَدَ إِغْوَاءَهُ أَيْ: مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (وَفُكَّ رِهَانِي) أَيْ: خَلِّصْ رَقَبَتِي عَنْ كُلِّ حَقٍّ عَلَيَّ، وَالرِّهَانُ الرَّهْنُ وَجَمْعُهُ وَمَصْدَرُ رَاهَنَهُ وَهُوَ مَا يُوضَعُ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ بِعَمَلِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: ٢١] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ» ) أَيْ: مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ، وَفَكُّ الرَّهْنِ تَخْلِيصُهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، يَعْنِي: خَلِّصْ نَفْسِي عَنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ وَمِنْ عِقَابِ مَا اقْتَرَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَرْضَاهَا بِالْعَفْوِ عَنْهَا، أَوْ خَلِّصْهَا مِنْ ثِقَلِ التَّكَالِيفِ بِالتَّوْفِيقِ لِلْإِتْيَانِ بِهَا، وَزَادَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: " وَثَقِّلْ مِيزَانِي " أَيْ: بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ( «وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيِّ الْأَعْلَى» ) وَرُوِيَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِلَفْظِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالنَّدِيُّ بِفَتْحٍ ثُمَّ الْكَسْرِ ثُمَّ التَّشْدِيدِ هُوَ: النَّادِي وَهُوَ الْمَجْلِسُ الْمُجْتَمِعُ، قِيلَ: النَّدِيُّ أَصْلُهُ الْمَجْلِسُ، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ أَيْضًا، وَيُرِيدُ بِالْأَعْلَى الْمَلَأَ الْأَعْلَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ أَهْلَ النَّدِيِّ إِذَا أَرَادَ الْمَجْلِسَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: النَّدِيُّ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْلِسِ إِذَا كَانَ فِيهِ الْقَوْمُ فَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يَكُنْ نَدِيًّا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَوْمِ، وَأَرَادَ الْمَلَأَ الْأَعْلَى، أَوْ مَجْلِسَهُمْ، وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنِي مِنَ الْمُجْتَمِعِينِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَقَامِ الْأَعْلَى الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ وَمَقَامُ الْوَسِيلَةِ الَّذِي قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِعَبْدٍ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ) أَيْ: ذَلِكَ الْعَبْدُ، قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَيُرْوَى فِي النِّدَاءِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَالنِّدَاءُ مَصْدَرُ نَادَيْتُهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُنَادَى بِهِ لِلتَّنْوِيهِ وَالرَّفْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نِدَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْأَعْلَوْنَ رُتْبَةً وَمَكَانًا عَلَى أَهْلِ النَّارِ كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: ٤٤] وَالنِّدَاءُ الْأَسْفَلُ هُوَ نِدَاءُ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَعَبَّرَ بِفِي لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنْ مِنْ وَنَظِيرُ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أَيِ: اجْعَلْنِي مُنْدَرِجًا فِي جُمْلَتِهِمْ مَغْمُورًا فِي بَرَكَتِهِمْ، بِخِلَافِ اجْعَلْنِي مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ عَدَدِهِمْ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ فَخْرٍ اهـ وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّدِيِّ الْقَوْمُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ الْمَجْلِسُ فَيَتَعَيَّنُ وُجُودُ فِي، وَلَعَلَّ إِيرَادَ فِي لِيَقْبَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَأَمَّا دَعْوَاهُ الْأَبْلَغِيَّةَ فَمَمْنُوعَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ وَاحِدًا مِنْهُمْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِيهِمْ، بَلِ الْأَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ أَنْ يُقَالَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ فِيهِمْ وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّوَاضُعِ بِفِي أَكْثَرُ مِمَّا فِي التَّوَاضُعِ بِمِنْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» " إِذْ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ مَا لَا يَخْفَى، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ (اجْعَلْ) مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: ٤٠] وَ {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: ٣٥] فَيُرَادُ فِي لِتَضْمِينِ الْجَعْلِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي، وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ؛ إِذْ لَيْسَ نَظِيرَهُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute