(قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي) أَيْ شَيْئًا مِنَ النِّيَّاتِ (إِلَّا الْحَجَّ) أَيْ نِيَّتَهُ (لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ) أَيْ مَعَ الْحَجِّ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْحَصْرِ السَّابِقِ قَبْلَ، أَيْ لَا نَرَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِ الْعُمْرَةِ مَحْظُورَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَقِيلَ مَا قَصَدْنَاهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي ذِكْرِنَا، وَالْمَعْنَى لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ مَقْرُونَةً بِالْحَجَّةِ، أَوِ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ الصَّحَابَةَ خَرَجُوا مَعَهُ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ، فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ وُجُوهَ الْإِحْرَامِ، وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ (حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ) أَيْ وَصَلْنَاهُ بَعْدَ مَا نَزَلْ بِذِي طُوًى بَاتَ بِهَا، وَاغْتَسَلَ فِيهَا، وَدَخَلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا صَبِيحَةَ الْأَحَدِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَصَدَ الْمَسْجِدَ مِنْ شَقِّ بَابِ السَّلَامِ، وَلَمْ يُصَلِّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْبَيْتِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الطَّوَافُ، فَمِنْ ثَمَّ اسْتَمَرَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مُرُورِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حَتَّى (اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أَيِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَالِاسْتِلَامُ افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الرُّكْنَ بِالْمُحَيَّا لِأَنَّ النَّاسَ يُحَيُّونَهُ بِالسَّلَامِ، وَقِيلَ: مِنَ السِّلَامِ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ، يُقَالُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ إِذَا لَثَمَهُ وَتَنَاوَلَهُ، وَالْمَعْنَى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَقَبَّلَهُ، وَقِيلَ: وَضَعَ الْجَبْهَةَ أَيْضًا عَلَيْهِ (فَرَمَلَ) أَيْ أَسْرَعَ يَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ السَّبْعَةِ (وَمَشَى) أَيْ عَلَى السُّكُونِ وَالْهَيْنَةِ (أَرْبَعًا) أَيْ فِي أَرْبَعِ مَرَّاتٍ وَكَانَ مُضْطَبِعًا فِي جَمِيعِهَا (ثُمَّ تَقَدَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ نُسَخِ مُسْلِمٍ نَفَذَ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ تَوَجَّهَ (إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَقَرَأَ وَاتَّخِذُوا بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى الْخَبَرِ {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: ١٢٥] أَيْ بَعْضِ حَوَالَيْهِ مُصَلًّى بِالتَّنْوِينِ أَيْ مَوْضِعَ صَلَاةِ الطَّوَافِ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) أَيْ صَلَّى خَلْفَهُ بَيَانًا لِلْأَفْضَلِ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) أَيْ بَعْدِ الْفَاتِحَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] أَيْ إِلَى آخِرِهَا فِي إِحْدَاهُمَا وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَيْ بِتَمَامِهَا فِي الْأُخْرَى وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا إِشْكَالَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ السُّنَّةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ تَقْدِيمُ سُورَةِ " الْكَافِرُونَ " كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ مُقَدِّمَةَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَسُورَةَ " الْكَافِرُونَ " لِلْبَرَاءَةِ عَنِ الشِّرْكِ، فَقَدَّمَ الْإِشْرَاكَ اهْتِمَامًا لِشَأْنِهِ لِانْدِرَاسِ آَثَارِ الْأَضْدَادِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ سُورَةِ " الْكَافِرُونَ " عَلَى الْإِخْلَاصِ: فَبِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ نَفْيِ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ عَلَى إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ فِي مَقَامِ الشُّهُودِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْمُقَامِ الْآنَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَتَضَيَّقُوا أَخَّرَهُ عُمَرُ إِلَى مَحَلِّهِ الْآنَ فَهُوَ غَرِيبٌ وَإِنْ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: ١] وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ بِالْبَيْتِ فَرَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: ١] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ) كَالْمُوَدِّعِ لَهُ» فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَأَنَّهُ قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ، بَلْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ ذَهَبَ إِلَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهَا وَصَبَّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ) أَيْ بَابِ الصَّفَا (إِلَى الصَّفَا) أَيْ إِلَى جَانِبِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute