للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فَلَمَّا دَنَا) أَيْ قَرُبَ مِنَ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: ١٥٨] جَمْعُ شَعِيْرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي جُعِلَتْ لِلطَّاعَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْحَجِّ عِنْدَهَا كَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ (أَبْدَأُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ وَقَالَ أَبْدَأُ (بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِالصَّفَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَهُ بِذِكْرِهِ فِي كَلَامِهِ، فَالتَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ابْدَءُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ لَا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا بِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ لَمَّا سَأَلَهَا عُرْوَةُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَكَذَا لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْ يَخَافُونَ الْحَرَجَ فِيهِ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ السَّكَنِ فِي صِحَاحِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ دُونَ الرُّكْنِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي سَنَدِهِ، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ كِلَاهُمَا ظَنِّيَّةٌ لَا يُفِيدُ الرُّكْنِيَّةَ، (فَبَدَأَ) أَيْ فِي سَعْيِهِ (بِالصَّفَا فَرَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ صَعِدَ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الصَّفَا (حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ) أَيْ إِلَى أَنْ رَآهُ (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ قَبْلَهُ: وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا خُصُوصُ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَهُوَ الْآنَ يُرَى بِلَا رُقِيٍّ فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ، وَقِيلَ قَدْرُ الْقَامَةِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاشِي دُونَ الرَّاكِبِ (فَوَحَّدَ اللَّهَ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَكَبَّرَهُ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ (وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) إِمَّا تَفْسِيرٌ لِمَا سَبَقَ وَالتَّكْبِيرُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مَعْنَاهُ، وَإِمَّا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ مَا سَبَقَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَوْلٌ آخَرُ وَكَأَنَّهُ إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ (وَحْدَهُ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَيْ مُنْفَرِدًا بِالْأُلُوهِيَّةِ أَوْ مُتَوَحِّدًا بِالذَّاتِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) فِي الْأُلُوهِيَّةِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا، أَوْ فِي الصِّفَاتِ فَيَكُونُ تَأْسِيسًا وَهُوَ الْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيِ الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ ثَابِتٌ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ حَقِيقَةً فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ يُحْيِي وَيُمِيتُ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ (قَدِيرٌ) أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا بِالْأَفْعَالِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ (أَنْجَزَ وَعْدَهُ) أَيْ وَفَّى بِمَا وَعَدَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) أَيْ عَبْدَهُ الْخَاصَّ، أَيْ فِي مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ نَصْرًا عَزِيزًا وَفَتْحًا مُبِينًا (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ قِتَالٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ أَنْوَاعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غُلِبُوا بِالْهَزِيمَةِ وَالْفِرَارِ (ثُمَّ) لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ دُونَ التَّرَاخِي (دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اهـ.

وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ بَوْنٌ بَيِّنٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَلِمَةُ ثُمَّ تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الدُّعَاءِ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَكَلِمَةُ بَيْنَ تَقْتَضِي تَوَسُّطَهُ بَيْنَ الذِّكْرِ: كَأَنْ يَدْعُوَ مَثَلًا بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ دَعَا بِمَا شَاءَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الذِّكْرِ، ثُمَّ عَادَ مَرَّةً ثَالِثَةً اهـ.

وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْجَوَابِ فَنَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ: أَنَّ قَوْلَهُ (قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ هَذَا الذِّكْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ نَقُولُ جَاءَ بَيْنَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ وَالْفُرْقَةِ، أَيْ دَعَا وَاصِلًا ذَلِكَ أَوْ مُفَارِقًا ذَلِكَ، يَعْنِي الذِّكْرَ السَّابِقَ بِالدُّعَاءِ اللَّاحِقِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ دَعَا بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الذِّكْرِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (ثُمَّ نَزَلَ وَمَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ) أَيْ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا وَقَاصِدًا جِهَتَهَا (حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ) أَيِ انْحَدَرَتْ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ صَبَّ الْمَاءَ فَانْصَبَّ (فِي بَطْنِ الْوَادِي) أَيِ الْمَسْعَى وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبَالٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>