وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِمُجَرَّدِ فَرَاغِ أَعْمَالِهَا وَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى حَلِّ الْحَاجِّ مِنْ حَجِّهِ وَإِنْ لَمْ يَنْحَرْ، وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مُمْتَنِعٌ، وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَقِبَ رِوَايَةِ جَابِرٍ هَذِهِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهَلِّلْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) قَالُوا وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ مَحْذُوفًا: أَيْ وَمَنْ أَحْرَمَ لِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، أَيْ نَدْبًا لِأَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِاتِّحَادِ الْقِصَّةِ وَالرَّاوِي فَفِيهِ نَصٌّ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ أَصْلُهُ لِلْوُجُوبِ وَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ إِلَى النَّدْبِ إِلَّا لِمُوجَبٍ صَارِفٍ عَنِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ) فَفِيهِ أَنَّ فَسْخَ الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لَا قَائِلَ بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَمَّا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِجَعْلِ الْحَجِّ عُمْرَةً، وَالْإِهْلَالِ بِأَعْمَالِهَا تَأْسِيسًا بِالتَّمَتُّعِ، وَتَقْرِيرًا لِجَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِمَاطَةً لِمَا أَلِفُوا مِنَ التَّحَرُّجِ عَنْهَا، قَدَّمَ الْعُذْرَ فِي اسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ، وَتَرَكَ مُوَافَقَتَهُمْ فِي الْإِهْلَالِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِلرَّغْبَةِ فِي مُوَافَقَتِهِمْ، وَإِزَاحَةً لِمَا عَرَاهُمْ مِنَ الْغَضَاضَةِ وَكَرَاهَةِ الْمُخَالَفَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَنْعِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَاصَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كَانَ صَرْفَهُمْ عَنْ سُنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُمْكِنُ جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: ( «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: لَكُمْ خَاصَّةً» ) (فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ) بِضَمِّ السِّينِ (ابْنِ جُعْشُمٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالشِّينِ وَيُفْتَحُ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلِعَامِنَا هَذَا؟) يَعْنِي الْإِتْيَانَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ مَعَ الْحَجِّ يَخْتَصُّ هَذِهِ السَّنَةَ (أَمْ لِأَبَدٍ) أَيْ مِنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً) أَيْ جَعَلَ أَوْ أَدْخَلَ وَاحِدَةً (فِي الْأُخْرَى) مَنْصُوبٌ لِعَامِلٍ مُضْمِرٍ، وَالْحَالُ مُؤَكَّدَةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْ أَرَادَ أَصَابِعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، لَا وَاحِدَةً مِنَ الْأَصَابِعِ، فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ أَصَابِعِهِ (وَقَالَ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ) أَيْ جَوَازُهَا (فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَشْهُرِهِ (مَرَّتَيْنِ) أَيْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ (لَا) أَيْ لَيْسَ لِعَامِنَا هَذَا فَقَطْ (بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ) كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ مَعْنَى دُخُولِهَا فِي الْحَجِّ أَنَّ فَرْضَهَا سَاقِطٌ بِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَتَى فُرِضَتْ حَتَّى يُقَالَ سَقَطَتْ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَوَازُ الْقِرَانِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الصَّوَابِ.
وَقِيلَ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ أَقُولُ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَسِبَاقِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْفَسْخِ، هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ، أَمْ لِتِلْكَ السَّنَةِ، أَمْ بَاقٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ: أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً وَيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَشَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اهـ.
وَيَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِي سَنَدِ الْمَنْعِ وَبَيَانِ الْمُخَصِّصِ لِإِلْزَامِ الْخِصَامِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (كَانَتِ الْمُتْعَةُ أَيِ الْفَسْخُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً) وَحَدِيثُ النَّسَائِيِّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لِلْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَنَا خَاصَّةً) هَذَا وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَا نَزَلَ بِسَرِفَ حَاضَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا سَمِعَتْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ « (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً: فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلَا» ) فَبَكَتْ فَقَالَ (مَا يُبْكِيكِ) فَذَكَرَتْ لَهُ مَا سَمِعَتْهُ وَأَنَّهَا بِسَبَبِهِ مُنِعَتِ الْعُمْرَةَ لِحَيْضِهَا، فَقَالَ (لَا «يَضُرُّكِ إِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجِّكِ» ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ ( «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» ) وَمَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ تُعَارِضُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، زَادَ أَحْمَدُ (وَلَمْ أَسُقْ هَدْيًا) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا ( «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُلَبِّي لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» ) وَجُمِعَ بِأَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً كَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَفَعَلَتْ، فَصَارَتْ مُتْعَةً ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتْ مَكَّةَ حَائِضًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ أَمَرَهَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَرَدَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute