مَالِكٌ رِوَايَةَ إِحْرَامِهَا بِالْعُمْرَةِ وَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَسْخَ الْعُمْرَةِ وَجَعْلَهَا حَجًّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بِخِلَافِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ إِلَى الْآنَ، عَلَى أَنَّ رَفْضَهَا لِعُمْرَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَمْرَهُ لَهَا بِرَفْضِ عُمْرَتِهَا تَرْكُ التَّحَلُّلِ مِنْهَا، وَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا حَتَّى تَصِيرَ قَارِنَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَهَا بِنَقْضِ شَعْرِهَا وَمَشْطِ رَأْسِهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ فَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَيْ عَنْ أَعْمَالِهَا لِأَجْلِ رَفْضِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّهَا قَالَتْ: وَارْجِعْ بِحَجٍّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ إِفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِالْعَمَلِ، أَفْضَلُ وَرُدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ لَيْسَ مَعَهَا عُمْرَةٌ، وَهَذَا صَرِيحٌ لِقَوْلِ أَئِمَّتِنَا إِنَّهَا تَرَكَتِ الْعُمْرَةَ وَحَجَّتْ مُفْرِدَةً، وَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا أَهَلَّتْ بِالْعُمْرَةِ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ أَنْ تَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، وَتُهِلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً، وَكَذَا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، وَوَقَفَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ، فَيَقْضِيهَا وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَحَاضَتْ بِسَرِفَ فَقَالَ لَهَا أَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ وَسَعَتْ أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَالَ لَهَا قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا رَفَضَتْ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لَا أَنَّهَا فَسَخَتِ الْعُمْرَةَ بِالْحَجِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، ثُمَّ لَمَّا شَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَجِدُ فِي نَفْسِهَا أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ إِلَّا بَعْدَ الْحَجِّ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَامِلَةٍ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: «طَوَافُكَ يَسَعُكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ» . أَيْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ.
(وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُتَقَرَّبُ بِذَبْحِهِ مِنَ الْإِبِلِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ (مَاذَا قُلْتَ) لَهَا، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ (فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِيمَنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْنَا ظَنًّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْعِرَاقِ يَقُولُ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ (حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ) أَيْ أَلْزَمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: ١٩٧] (قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ إِحْرَامِ الرَّجُلِ عَلَى إِحْرَامِ غَيْرِهِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنَّ مَعِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ إِذَا عَلَّقْتَ إِحْرَامَكَ بِإِحْرَامِي، فَإِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَمَعِي (الْهَدْيُ) وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالتَّحَلُّلِ (فَلَا تَحِلَّ) نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ أَيْ لَا تَحِلَّ أَنْتَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ كَمَا لَا أَحِلُّ، حَتَّى تَفْرُغَ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ.
(قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ) أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (الَّذِي قَدِمَ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْهَدْيِ (عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ) أَيْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً) أَيْ مِنَ الْهَدْيِ (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (فَحَلَّ النَّاسُ) أَيْ خَرَجَ مِنَ الْإِحْرَامِ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا (كُلُّهُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ تَحِلَّ وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ، أَقُولُ لَعَلَّهَا مَا أُمِرَتْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَوْ كَانَتْ مُعْتَمِرَةً وَأُمِرَتْ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَيْهَا لِتَكُونَ قَارِنَةً كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (وَقَصَّرُوا) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا قَصَّرُوا مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِأَنْ يَبْقَى لَهُمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الشَّعَرِ حَتَّى يُحْلَقَ فِي الْحَجِّ اهـ. وَلِيَكُونَ شَعَرُهُمْ فِي مِيزَانِ حَجَّتِهِمْ أَيْضًا سَبَبًا لِزِيَادَةِ أَجْرِهِمْ، وَلِيَكُونُوا دَاخِلِينَ فِي الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُحَلِّقِينَ، جَامِعِينَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ (إِلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ حَلُّوا (وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) عَطْفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَرْتَوُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُونَ الدَّوَابَّ لِمَا بَعْدَهُ، وَقَيْلَ لِأَنَّ الْخَلِيلَ تَرَوَّى فِيهِ أَيْ تَفَكَّرَ فِي ذَبْحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute