للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَفِي الْجُمْلَةِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْإِسْرَاعِ بِالرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ دُونَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَهَبَ إِلَى عَرَفَاتٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّبِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسْتَحَبَّ الْإِسْرَاعُ فِيهِ لِكُلِّ مَارٍّ مِنْ حَاجٍّ وَغَيْرِهِ ذَاهِبًا وَآيِبًا لِكَوْنِهِ مَحَلَّ نُزُولِ الْعَذَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِنَّمَا سُمِّيَ لِإِسْرَاعِ الرُّكَّابِ وَالْمُشَاةِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ وَإِنَّمَا يُسْرِعُ لِأَجْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ فِيهِ (فَحَرَّكَ) أَيْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ (قَلِيلًا) أَيْ تَحْرِيكًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا أَوْ مَكَانًا قَلِيلًا أَيْ يَسِيرًا، وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَتَى مُحَسِّرًا أَسْرَعَ نَاقَتَهُ حَتَّى جَاوَزَ الْوَادِي قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ.

وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَرَكَهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مِنًى فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ عِنْدَ الزَّحْمَةِ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مُقَدَّمٌ لَا سِيَّمَا وَهُوَ أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَسْرَعَ فِي بَعْضِهِ وَتَرَكَ الْإِسْرَاعَ فِي كُلِّهِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ اسْتِبْقَاؤُهُ خَشْيَةَ الْمُزَاحَمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْوَحْشَةِ مَعَ وُجُودِ الْكَثْرَةِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ الْمَارُّ بِهِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بَعْضَهُ مَرْفُوعًا. إِلَيْكَ تَغْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا قَدْ ذَهَبَ الشَّحْمُ الَّذِي يَزِينُهَا الْوَضِينُ بِطَّانٌ عَرِيضٌ يُنْسَجُ مِنْ سُيُورٍ أَوْ شَعَرٍ أَوْ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِلْدٍ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ (ثُمَّ سَلَكَ) أَيْ دَخَلَ (الطَّرِيقَ الْوُسْطَى) وَهِيَ غَيْرُ طَرِيقِ ذَهَابِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ بَلْ إِنَّمَا هِيَ (الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) أَيْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (حَتَّى أَتَى) عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ، أَيْ حَتَّى وَصَلَ (الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ) أَيِ الْعَقَبَةِ، وَلَعَلَّ الشَّجَرَةَ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً هُنَاكَ (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ الرَّمْيُ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَدَلٌ مِنَ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ بِقَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا قَوْلُهُ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ اهـ. كَلَامُ النَّوَوِيُّ.

وَعِنْدِي أَنَّ اتِّصَالَ حَصَى الْخَذْفِ بِقَوْلِهِ: مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا حَصَى الْخَذْفِ، فَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَكَذَا نَقْلَهُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُعْظَمِ النُّسَخِ قَالَ: وَصَوَابُهُ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ.

هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُلْتُ: وَالَّذِي فِي النُّسَخِ مِنْ غَيْرِ لَفْظَةِ " مِثْلَ " هُوَ الصَّوَابُ بَلْ لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ وَلَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: حَصَى الْخَذْفِ مُتَعَلِّقٌ بِحَصَيَاتٍ أَيْ رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَصَى الْخَذْفِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَحَصَى الْخَذْفِ مُتَّصِلٌ بِحَصَيَاتٍ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ أَقْرَبُ لَفْظًا وَأَنْسَبُ مَعْنًى وَمَعَ هَذَا لَا اعْتِرَاضَ وَلَا تَخْطِئَةَ عَلَى إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِحَصَاةٍ أَوْ حَصَيَاتٍ لَا يُنَافِي وُجُودَ " مِثْلَ " لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ وَاضِحٌ مَعْنًى وَإِلَّا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ حَذْفُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ كَحَصَى الْخَذْفِ، بَلْ لَا يَظْهَرُ لِلتَّعَلُّقِ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، فَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ بِلَفْظِ (رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) يُرَجِّحُ وُجُودَ الْمِثْلِ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَفِي نُسْخَةٍ (رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَرَمَاهَا، أَوِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يُفِيدُ جَوَازَ الرَّمْيِ مِنْ فَوْقِهَا وَقِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ الْجَمَرَاتِ حَيْثُ يَجُوزُ مِنْ جَوَانِبِهَا وَإِنْ كَانَ الْجَانِبُ الْمُسْتَحَبُّ وَاحِدًا، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِأَنَّهُ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لَا إِلَى ظَهْرِهَا فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقِيَاسُ الدِّرَايَةِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ فَوْقِهَا بَاطِلٌ لَيْسَ تَحْتَهُ طَائِلٌ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ رَجَعَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (إِلَى الْمَنْحَرِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>