النَّحْرِ وَالْآنَ يُقَالُ لَهُ الْمَذْبَحُ لِعَدَمِ النَّحْرِ أَوْ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ كَمَا غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، فَلَا فَضْلَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ مِنْ صُورَةِ مَسْجِدٍ بُنِيَ قَرِيبٍ مِنَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى مُنْحَرِفٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ، وَبُنِيَ بِإِزَائِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مَسْجِدٌ تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ مَسْجِدَ النَّحْرِ: فَلَيْسَ هُوَ بَلِ الْأَصَحُّ أَنَّ مَنْحَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مِعْوَلِهِ الَّذِي بِقُرْبِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ مُتَقَدِّمًا عَلَى قِبْلَةِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ (فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةَ) بِعَدَدِ سِنِي عُمْرِهِ (بِيَدِهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ الْمِشْكَاةِ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ بِدُونِ لَفْظِ بَدَنَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ سِوَى ابْنِ مَاهَانَ فَإِنَّهُ رَوَاهُ بَدَنَةً قَالَ: وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ (ثُمَّ أَعْطَى) أَيْ بَقِيَّةَ الْبُدْنِ (عَلِيًّا فَنَحَرَ) أَيْ عَلِيٌّ (مَا غَبَرَ) أَيْ بَقِيَ مِنَ الْمِائَةِ (وَأَشْرَكَهُ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا (فِي هَدْيِهِ) بِأَنْ أَعْطَاهُ بَعْضَ الْهَدَايَا لِيَنْحَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ الْبُدْنِ أَيْضًا وَيَكُونُ عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي نَفْسِ الْهَدْيِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَشْرِيكًا حَقِيقَةً بَلْ أَعْطَاهُ قَدْرًا يَذْبَحُهُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَهِيَ تَمَامُ الْمِائَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِ هَدْيِهِ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُعْطَى حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا يُؤَخَّرُ بَعْضُهَا إِلَى أَيْامِ التَّشْرِيقِ.
(ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ (فَجُعِلَتْ) أَيِ الْقِطَعُ (فِي قِدْرٍ) فِي الْقَامُوسِ الْقِدْرُ بِالْكَسْرِ مَعْلُومٌ، أُنْثَى أَوْ يُؤَنَّثُ (فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا) الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْقِدْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْهَدَايَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا) أَيْ مِنْ مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَرَقِ لُحُومِ الْهَدَايَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ اهـ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَقِيلَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: ٥٨] (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ) أَيْ أَسْرَعَ (إِلَى الْبَيْتِ) أَيْ بَيْتِ اللَّهِ لِطَوَافِ الْفَرْضِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَالرُّكْنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ بِنِيَّةِ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَوْ نَوَى غَيْرَهُ كَنَذْرٍ أَوْ وَدَاعٍ وَقَعَ عَنِ الْإِفَاضَةِ (فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ، فَحَذَفَ ذِكْرَ الطَّوَافِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ بِمِنًى.
أَقُولُ إِنَّهُ لَا يُحْمَلُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهِ، فَيُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ صَلَّى بِمَكَّةَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَقْتَ الظُّهْرِ، وَرَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى الظُّهْرَ بِأَصْحَابِهِ، أَوْ يُقَالُ الرِّوَايَتَانِ حَيْثُ تَعَارَضَتَا فَقَدْ تَسَاقَطَتَا، فَتَتَرَجَّحُ صَلَاتُهُ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهَا فِيهَا أَفْضَلَ، وَيُؤَيِّدُهُ ضِيقُ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجَعَ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْعَرِ، وَرَمَى بِمِنًى، وَنَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَطَبَخَ لَحْمَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى، فَشَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ بِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِ الْمُخْتَارِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَغَيْرِهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ الزِّيَارَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ مَعَ نِسَائِهِ، لَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
قُلْتُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، لَكِنْ لَا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، مَعَ الْغَرَابَةِ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ إِلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ جَوَّزَ تَأْخِيرَ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا إِلَى اللَّيْلِ أَوْ أَمَرَ بِتَأْخِيرِ زِيَارَةِ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ (فَذَهَبَ مَعَهُنَّ) غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَوْدُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَهُنَّ فِي اللَّيْلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute