الِاحْتِرَامِ لِمَا يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ عَلَيْهِ وَمُدَاوَمَةُ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ مَحَلُّ الْخَطَأِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَؤُهُ الْمُضَاعَفُ يُضَاعَفُ» " أَيْ: كَمِّيَّةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهَا فِي حَرَمِ اللَّهِ أَفْحَشُ وَأَغْلَظُ، أَيْ تُضَاعَفُ كَيْفِيَّةً فَتَنْهَضُ سَبَبًا لِغِلْظِ الْمُوجَبِ وَهُوَ الْعِقَابُ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْمَرْوِيِ مِنَ التَّضَاعُفِ كَيْلَا يُعَارِضَ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: ١٦٠] أَعْنِي أَنَّ السَّيِّئَةَ تَكُونُ فِيهِ سَبَبًا لِمِقْدَارٍ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مِقْدَارِ سَيِّئَاتٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ سَجِيَّةَ الْبَشَرِ، فَالسَّبِيلُ التَّرَوُّحُ عَنْ سَاحَتِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَى نَفْسِهِ فِي دَعْوَاهَا الْبَرَاءَةَ هَذِهِ الْأُمُورَ - إِلَّا وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَغْرُورٌ، أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَبَّبِينَ إِلَيْهِ الْمَدْعُوِّ لَهُ، كَيْفَ اتَّخَذَ الطَّائِفَ دَارًا وَقَالَ: لَأَنْ أُذْنِبَ خَمْسِينَ ذَنْبًا بِرَكِيَّةٍ - وَهُوَ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الطَّائِفِ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُذْنِبَ ذَنْبًا وَاحِدًا بِمَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ بَلْدَةٍ يُؤْخَذُ الْعَبْدُ فِيهَا بِالْهِمَّةِ قَبْلَ الْعَمَلِ إِلَّا مَكَّةَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: ٢٥] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِلَّذِي جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ: ارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَسْمَعُ أَنَّ سَاكِنَ مَكَّةَ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَكُونَ الْحَرَمُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِلِّ ; لِمَا يُسْتَحَلُّ مِنْ حَرَمِهَا. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطِيئَةٌ أُصِيبُهَا بِمَكَّةَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ خَطِيئَةً بِغَيْرِهَا. نِعْمَ أَفْرَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ اسْتَخْلَصَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطِّبَاعِ، فَأُولَئِكَ هُمْ أَهْلُ الْجَوَازِ الْفَائِزُونَ بِفَضِيلَةِ مَنْ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَالصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ مَا يُحْبِطُهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِي مَسْجِدِهِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا يُحْصِيهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ ". قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَدَمًا وَلَا وَضَعَهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» ". وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهُ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَبِكُلِّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلِّ يَوْمٍ حِمْلَانِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» "، وَلَكِنَّ الْفَائِزَ بِهَذَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ إِحْبَاطِهَا أَقَلُّ الْقَلِيلِ، فَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِمْ وَلَا بِذِكْرِ حَالِهِمْ قَيْدًا فِي جَوَازِ الْجِوَارِ، لِأَنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ، وَالْمُبَادِرَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَتَطَلَّبَهُ، وَإِنَّهَا لَأَكْذَبُ مَا يَكُونُ إِذَا حَلَفَتْ، فَكَيْفَ إِذَا ادَّعَتْ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ كَوْنُ الْجِوَارُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَضَاعُفَ السَّيِّئَاتِ وَتَعَاظُمَهَا وَإِنْ فُقِدَ فِيهَا، فَمُخَالِفَةُ السَّلَامَةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ التَّوْقِيرِ، وَالْإِحْلَالُ قَائِمٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَيْضًا مَانِعٌ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ ذَوِي الْمَلَكَاتِ، فَإِنَّ مَقَامَهُمْ وَمَوْتَهُمْ فِيهَا السَّعَادَةُ الْكَامِلَةُ. فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي ; إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا» ". وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ غَيْرَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا» " اهـ.
وَلَوْ أَدْرَكَ الْأَوَّلُونَ مَا انْتَهِي إِلَيْهِ الْآخَرُونَ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِنَا الْغَافِلُونَ، لَحَكَمُوا بِحُرْمَةِ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ شُيُوعِ الظُّلْمِ، وَكَثْرَةِ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرَاتِ، وَفُشُوِّ الْبِدَعِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَالشُّبَهَاتِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسُوا بِمُجَاوِرِينَ، بَلْ لَهُمْ مَقَاصِدُ فَاسِدَةٌ صَارُوا بِهَا مُقِيمِينَ غَيْرَ مُسَافِرِينَ، مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ جِرَايَةٍ أَوْ " جَامَكِيَّةٍ " أَوْ صُرَّةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، غَالِبُهُمْ يَأْكُلُونَهَا، غَيْرَ اسْتِحْقَاقٍ لِحَالَتِهِمْ وَمِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِوَظَائِفِ خِدْمَتِهِمْ، وَمِنْ غَيْرِ رِعَايَةٍ لِشُرُوطِ الْأَوْقَافِ فِي مُدَاخَلَاتِهِمْ، لَكِنَّ هَذِهِ الْبَلِيَّةَ حَيْثُ عَمَّتِ الْبِلَادَ وَطَمَّتِ فِي الْبِلَادِ " طَابَتْ "، حَتَّى عَلَى الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ. قَالَ - تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: ٤١] لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. قَالَ - تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: ٣٣] وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، " وَلَعَلَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْفِعْلِ وَالْإِحْسَانِ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute