أَخَذْتَهَا وَعَرَّفْتَهَا وَلَمْ تَجِدْ صَاحِبَهَا فَإِنَّ لَكَ أَنْ تَمْلِكَهَا (أَوْ لِأَخِيكَ) يُرِيدُ بِهِ صَاحِبَهَا وَالْمَعْنَى إِنْ أَخَذْتَهَا فَظَهَرَ مَالِكُهَا فَهُوَ لَهُ أَوْ تَرَكْتَهَا فَاتَّفَقَ أَنْ صَادَفَهَا فَهُوَ أَيْضًا لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَلْتَقِطْهَا يَلْتَقِطْهَا غَيْرُكَ (أَوْ لِلذِّئْبِ) بِالْهَمْزَةِ وَإِبْدَالِهِ أَيْ: إِنْ تَرَكْتَ أَخْذَهَا أَخَذَهَا الذِّئْبُ وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْتِقَاطِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: إِنْ تَرَكْتَهَا وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنْ يَأْخُذَهَا غَيْرُكَ يَأْكُلُهُ الذِّئْبُ غَالِبًا، نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْتِقَاطِهَا وَتَمَلُّكِهَا وَعَلَى مَا هُوَ الْعِلَّةُ لَهَا وَهِيَ كَوْنُهَا مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ لِيَدُلَّ عَلَى اطِّرَادِ هَذَا الْحُكْمِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَعْجَزُ عَنِ الرَّعْيِ بِغَيْرِ رَاعٍ (قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ) أَيْ: شَيْءٌ لَكَ (وَلَهَا) قِيلَ: مَا شَأْنُكَ مَعَهَا أَيِ اتْرُكْهَا وَلَا تَأْخُذْهَا (مَعَهَا سِقَاؤُهَا) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مَعِدَتُهَا فَتَقَعُ مَوْقِعَ السِّقَاءِ فِي الرَّيِّ لِأَنَّهَا إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ شَرِبَتْ مَا يَكُونُ فِيهِ رِيُّهَا لِظَمَئِهَا أَيَّامًا (وَحِذَاؤُهَا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: خِفَافُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلْعِلَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِأَسْبَابِ تَعَيُّشِهَا أَيْ: يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ أَنْ تَمُوتَ عَطَشًا لِاصْطِبَارِهَا عَلَى الظَّمَأِ وَاقْتِدَارِهَا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَرْعَى، وَالسِّقَاءُ يَكُونُ لِلَّبَنِ وَيَكُونُ لِلْمَاءِ وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا تَحْوِيهِ فِي كِرْشِهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَقَعُ مَوْقِعَ السِّقَاءِ فِي الرَّعْيِ أَوْ أَرَادَ بِهِ صَبْرَهَا عَلَى الظَّمَأِ فَإِنَّهَا أَصْبَرُ الدَّوَابِّ عَلَى ذَلِكَ (تَرِدُ الْمَاءَ) أَيْ: تَجِيئُهُ وَتَشْرَبُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: ٢٣] (وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) أَيْ: مَالِكُهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ بِالسِّقَاءِ أَنَّهَا إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ شَرِبَتْ مَا يَكُونُ فِيهِ رِيُّهَا لِظَمَئِهَا وَهِيَ مِنْ أَطْوَلِ الْبَهَائِمِ ظَمَأً، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا تَرِدُ عِنْدَ احْتِيَاجِهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبْرَهَا عَلَى الْمَاءِ أَوْ وُرُودَهَا إِلَيْهِ بِمَثَابَةِ سِقَائِهَا وَبِالْحِذَاءِ خِفَافَهَا وَأَنَّهَا تَقْوَى بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَقَطْعِ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ وَوُرُودِ الْمِيَاهِ النَّائِيَةِ، شَبَّهَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْ كَانَ مَعَهُ حِذَاءٌ وَسِقَاءٌ فِي سِعَةٍ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الرَّبَّ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْبَهَائِمَ غَيْرُ مُتَعَبَّدَةٍ وَلَا مُخَاطَبَةٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجُوزُ إِضَافَةُ مَالِكِهَا إِلَيْهَا وَجَعْلِهِمْ أَرْبَابًا لَهَا، قَالَ الْقَاضِي: " وَأَشَارَ بِالتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ مَعَهَا سِقَاؤُهَا أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْتِقَاطِهَا، وَالْفَارِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا اسْتِقْلَالُهَا بِالتَّعْيِينِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا تُوجَدُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَأَمَّا مَا تُوجَدُ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ كَوْنُهَا مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ مُطَمِّحَةً لِلطَّمَعِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْكِبَارِ بَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ عِمْرَانٍ لِإِطْلَاقِ الْمَنْعِ "، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَنَمِ وَغَيْرِهِ فِي فَضِيلَةِ الِالْتِقَاطِ إِذَا خَافَ الضَّيَاعَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، وَأُجِيبُ عَنْ حَدِيثِ زَيْدٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَمَانَةِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ إِذَا تَرَكَهَا وَحْدَهَا، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا أَمْنَ فَفِي أَخْذِهَا إِحْيَاءٌ وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَقَالَ: «عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا» ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِثُمَّ مُجَرَّدُ الْعَطْفِ لِيُطَابِقَ مَا سَبَقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: ١٥٤] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَخَّرَ الْمَعْرِفَةَ عَنِ التَّعْرِيفِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إِيذَانًا بِكَوْنِ الْمُلْتَقِطِ مَأْمُورًا بِمَعْرِفَتَيْنِ يَعْرِفُ عِفَاصَهَا أَوَّلًا، فَإِذَا عَرَّفَهَا سَنَةً وَأَرَادَ تَمَلُّكَهَا نَدَبَ لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا مَرَّةً أُخْرَى تَعَرُّفًا ثَانِيًا ; لِيَظْهَرَ صِدْقُ صَاحِبِهَا إِذَا وَصَفَهَا اه، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى (ثُمَّ اسْتَنْفِقْ) أَيْ: فَإِذَا لَمْ تَعْرِفْ صَاحِبَهَا تَمَلَّكْهَا وَأَنْفِقْهَا عَلَى نَفْسِكَ وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ ثُمَّ إِذَا تَصَرَّفَ الْآخِذُ لِنَفْسِهِ فَقِيرًا أَوْ تَصَدَّقَ (بِهَا) عَلَى فَقِيرٍ فَالصَّاحِبُ يُخَيَّرُ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا رُجُوعَ لِأَحَدٍ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) أَيْ: إِنْ بَقِيَ عَيْنُهَا وَإِلَّا فَقِيمَتُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute