٢١٠ - وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ قَوْمٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: ١] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١] ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي الْحَشْرِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: ١٨] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ " وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ". قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ. حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
٢١٠ - (وَعَنْ جَرِيرٍ) : هُوَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَمْرٍو، أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ جَرِيرٌ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ وَسَكَنَهَا زَمَانًا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قَرْقِيسِيَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَ: كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ) أَيْ: أَوَّلِهِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ قَوْمٌ عُرَاةٌ) أَيْ: يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْعُرْيُ حَالَ كَوْنِهِمْ (مُجْتَابِي) : هُوَ بِالْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ بَاءٌ أَيْ لَابِسِي (النِّمَارِ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ أَكْسِيَةٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّطَةٍ. وَاحِدَتُهَا نَمِرَةٌ بِفَتْحِ النُّونِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ (أَوِ الْعَبَاءِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، فَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ كِسَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَالنَّمِرَةُ: شَمْلَةٌ فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ، أَوْ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَرَادِفَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مُتَقَلِّدُونَ لِلسُّيُوفِ مِنْ جَوَانِبِهِمْ (وَمُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ) : كَذَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِالْوَاوِ، وَعَلَيْهِ صَحٌّ بِالْحُمْرَةِ، لَكِنْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذِهِ الْوَاوُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ (عَامَّتُهُمْ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (مِنْ مُضَرَ) : كَعُمَرَ، قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ (بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ) أَيْ مُبَالَغَةً (فَتَمَعَّرَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فَتَغَيَّرَ (وَجْهُ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ الْحُزْنِ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ) : أَيِ: الْفَقْرِ الشَّدِيدِ، وَمِنْ بَيَانٌ لِ " مَا "، يَعْنِي: لِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُجْبِرُ كَسْرَهُمْ وَيُغْنِي فَقْرَهُمْ وَيَكْسِبُهُمْ وَيُعْطِيهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ خُصُوصًا فِي حَقِّ أُمَّتِهِ (فَدَخَلَ) أَيْ فِي بَيْتِهِ لَعَلَّهُ يَلْقَى شَيْئًا مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ أَوْ لِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلْمَوْعِظَةِ (ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا) أَيْ بِالْأَذَانِ (فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ فَصَلَّى) أَيْ: إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ بِدَلِيلِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوِ الْجُمُعَةُ لِقَوْلِهِ: فِي صَدْرِ النَّهَارِ (ثُمَّ خَطَبَ) أَيْ: وَعَظَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا فَوْقَ الْمِنْبَرِ أَوْ دُونَهُ (فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: ١] : أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ غَالِبِيٌّ {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: ١] أَيْ: عَذَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء: ١] أَيْ: بِالْوَاسِطَةِ {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: ١] : وَهِيَ آدَمُ (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) : وَتَمَامُهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا} [النساء: ١] أَيْ: مِنْ ضِلْعِهَا زَوْجَهَا أَيْ: حَوَّاءَ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ أَوْ لِلْحَالِ، وَقَدْ تُقَدَّرُ أَوْ لَا تُقَدَّرُ {وَبَثَّ مِنْهُمَا} [النساء: ١] أَيْ: فَرَّقَ مِنْ أَوْلَادِهِمَا بِوَسَطٍ أَوْ غَيْرِ وَسَطٍ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي آدَمَ لِصُلْبِهِ أَرْبَعُونَ فِي عِشْرِينَ بَطْنًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ لِآدَمَ أَرْبَعُونَ وَلَدًا عِشْرُونَ غُلَامًا وَعِشْرُونَ جَارِيَةً " رِجَالًا " كَثِيرًا " وَنِسَاءً " أَيْ كَثِيرَةً، فَاكْتَفَى بِوَصْفِ الرِّجَالِ بِالْكَثْرَةِ عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِهَا، إِذِ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُنَّ أَكْثَرَ، وَتَذْكِيرُ الْكَثِيرِ حَمْلُ الْجَمْعِ دُونَ الْجَمَاعَةِ وَلِأَنَّ الْفَعِيلَ يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ} [النساء: ١] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ " بِهِ " أَيْ: بِاللَّهِ وَالْأَرْحَامَ بِالنَّصْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَطْفًا عَلَى الْجَلَالَةِ، أَيِ: اتَّقُوا قَطْعَهَا وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ وَهُوَ جَائِزٌ فَصِيحٌ، وَأَخْطَأَ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ كَذَا. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١] أَيْ: مُطَّلِعًا عَلَى أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ فَرَاقِبُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا (وَالْآيَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا} [النساء: ١] عَلَى تَأْوِيلٍ " قَالَ " بِ " قَرَأَ " أَيْ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (الَّتِي فِي الْحَشْرِ) . اهـ. وَأَوَّلُهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: ١٨] وَبَعْدَهُ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ} [الحشر: ١٨] وَهِيَ نَكِرَةٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute