أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: ٥] {مَا قَدَّمَتْ} [الانفطار: ٥] : وَأَخَّرَتْ أَيْ: لِتَتَفَكَّرْ وَتَتَأَمَّلِ النُّفُوسُ مَا قَدَّمَتْ، أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيْرَاتِ أَرْسَلَتْهُ إِلَى الْآخِرَةِ (لِغَدٍ) أَيْ: لِنَفْعِ الْغَدِ مِنَ الزَّمَانِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَتَمَامُهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْأَوَّلُ مَعْنَاهُ اتَّقُوا مُخَالَفَتَهُ، وَالثَّانِي اتَّقُوا عُقُوبَتَهُ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: ١٨] أَيْ: عَالِمٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَيُخْبِرُكُمْ بِهَا وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَقْطِيعِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِأَنْ يُؤْتَى بِبَعْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " تَصَدَّقَ رَجُلٌ ": بِفَتْحِ الْقَافِ وَتُسَكَّنُ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الظَّاهِرَ لِيَتَصَدَّقْ رَجُلٌ، وَلَامُ الْأَمْرِ لِلْغَائِبِ مَحْذُوفٌ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ نَبْكِ فِي: قِفَا نَبْكِ مَجْزُومٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْرِ أَيْ: فَلْنَبْكِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا} [الحجر: ٣] أَيْ: فَلْيَأْكُلُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: ١٤] أَيْ: فَلْيَغْفِرُوا وَلَوْ حَمَلَ " تَصَدَّقَ " عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي لَمْ يُسَاعِدْهُ قَوْلُهُ: " وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " إِذِ الْمَعْنَى لِيَتَصَدَّقَ رَجُلٌ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، كَذَا قَوْلُهُ: فَجَاءَ رَجُلٌ. . إِلَخْ: لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَقِيبَ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَلِمَنْ يُجْرِيهِ عَلَى الْإِخْبَارِ وَجْهٌ، لَكِنْ فِيهِ تَعَسُّفٌ غَيْرُ خَافٍ اهـ.
قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَيَأْبَى عَنِ الْحَمْلِ عَلَى حَذْفِ اللَّامِ عَدَمُ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ اهـ. فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لَفْظًا وَأَمْرٌ مَعْنًى، وَإِتْيَانُ الْإِخْبَارِ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَكَلُّفٌ فَضْلًا عَنْ تَعَسُّفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف: ١١] : قِيلَ: إِنَّهُمَا بِمَعْنَى آمِنُوا وَجَاهِدُوا، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ " تَعْبُدُ اللَّهَ " بِمَعْنَى اعْبُدِ اللَّهَ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ وَامْتَثَلَ بِهِ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا يُقَالُ هَذَا الْإِخْبَارُ مُضَارِعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمَاضِي، لِأَنَّ الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَبَرٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَاضِي لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْآتِيَ: " فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ " حَمَلَ بَعْضُهُمْ " أَخَذَ " الثَّانِيَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ. (مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مِنْ قَمْحِهِ وَحِنْطَتِهِ وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ شَعِيرِهِ (مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ) : وَإِعَادَةُ الْعَامِلِ تُفِيدُ الِاسْتِقْلَالَ وَتَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الصَّاعُ مِنْهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَجُلٌ نَكِرَةٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْإِفْرَادِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَشَجَرَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: ٢٧] فَإِنَّ شَجَرَةً وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْأَشْجَارِ، وَمِنْ ثَمَّ كَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ مِرَارًا بِلَا عَطْفٍ أَيْ: لِيَتَصَدَّقْ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، وَرَجُلٌ مِنْ دِرْهَمِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَ " مِنْ " فِي: " مِنْ دِينَارٍ "، إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: لِيَتَصَدَّقْ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَإِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ فَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: لِيَتَصَدَّقْ بِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: ٩] (حَتَّى قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتَصَدَّقْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) : أَيِ: الرَّاوِي (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ) : بِالضَّمِّ، أَيْ: رَبْطَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ (كَادَتْ كَفُّهُ) أَيْ قَارَبَتْ (تَعْجِزُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ (عَنْهَا) أَيْ: عَنْ حَمْلِ الصُّرَّةِ لِثِقَلِهَا لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا (بَلْ قَدْ عَجَزَتْ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ (ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ) أَيْ: تَوَالَوْا فِي إِعْطَاءِ الْخَيْرَاتِ وَإِتْيَانِ الْمَبَرَّاتِ (حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ) : الْكَوْمَةُ: بِالْفَتْحِ الصُّبْرَةُ (مِنْ طَعَامٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا حُبُوبٌ، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النُّقُودِ لِغَلَبَتِهِ (وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ) : بَدَلٌ مِنْ حَتَّى الْأُولَى أَوْ غَايَةٌ لَهَا أَيْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute