وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي) : أَيْ: هُوَ أَخِي ; لِأَنَّ أَبِي كَانَ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَلَدَتْ وَلَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَنَا أَحَقُّ بِهِ. (فَتَسَاوَقَا) : تَفَاعَلَ مِنَ السَّوْقِ أَيْ: فَذَهَبَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: لِلْمُرَافَعَةِ (فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ) : أَيْ: فِي ابْنِ الْوَلِيدَةِ (قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةَ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) يَعْنِي: الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ زِنًا، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَإِذَا كَانَ وَالَدُهُ وَأُمُّهُ رَقِيقَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أُمَّهُ أَيْضًا (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) : أَيْ: وَلِلزَّانِي الْحِجَارَةُ بِأَنْ يُرْجَمَ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُحَدَّ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْحِرْمَانَ عَنِ الْمِيرَاثِ وَالنَّسَبِ، وَالْحَجَرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِرْمَانِ، كَانَ يُقَالُ لِلْمَحْرُومِ: فِي يَدِهِ التُّرَابُ وَالْحَجَرُ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَلِيدَةُ الْأَمَةَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَتَّخِذُونَ الْوَلَائِدَ، وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِنَّ الضَّرَائِبَ فَيَكْتَسِبْنَ بِالْفُجُورِ، وَكَانَتِ السَّادَةُ أَيْضًا لَا يَحْتِمُونَهُنَّ فَيَأْتُونَهُنَّ، فَإِذَا أَتَتْ وَلِيدَةٌ بِوَلَدٍ، وَقَدِ اسْتَفْرَشَهَا السَّيِّدُ وَزَنَى بِهَا غَيْرُهُ أَيْضًا، فَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَحَدُهَا أُلْحِقَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَنَازَعَا فِيهِ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، وَكَانَ عُتْبَةُ قَدْ صَنَعَ هَذَا الصُّنْعَ فِي جَاهِلِيَّتِهِ بِوَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَحَسِبَ أَنَّ الْوَلَدَ لَهُ، فَعَهِدَ إِلَى أَخِيهِ بِأَنْ يَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَنْسُبَهُ إِلَى أَخِيهِ حِينَمَا احْتَضَرَ، وَكَانَ كَافِرًا، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَزْمَعَ سَعْدٌ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَ وَصِيَّتَهُ وَيَنْزِعَهُ، فَأَبَى ذَلِكَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، وَتَرَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ أَنَّ الْوَلَدَ لِلسَّيِّدِ الَّذِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي عَنْ فِعْلِهِ سِوَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ، وَأَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ إِثْبَاتِ النَّسَبِ لِلزَّانِي. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّعْوَى تَجْرِي فِي النَّسَبِ كَمَا تَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ، وَأَنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، وَأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَطْءِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ، وَأَنَّ إِقْرَارَ الْوَارِثِ فِيهِ كَإِقْرَارِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً فَمُجَرَّدُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَنَقَلُوا فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَشَرَطُوا لَهُ إِمْكَانَ الْوَطْءِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ نَكَحَ الْمَشْرِقِيُّ مَغْرِبِيَّةً، وَلَمْ يُفَارِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَطَنَهُ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يُلْحَقْ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِمْكَانَ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، اهـ. لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ظُهُورِ فَسَادِهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَظُهُورِ صَلَاحِهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَرَطَ الْإِمْكَانَ لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ وَجَوَّزَ اجْتِمَاعَهُمَا بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ، حَمْلًا لِلْمُؤْمِنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ تَصِيرُ فِرَاشًا لِلْوَاطِئِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ، فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا إِذَا وَلَدَتْ) . (ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ) : أَيْ: زَوْجَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (احْتَجِبِي مِنْهُ) : أَيْ: مِنَ الْوَلَدِ (لِمَا رَأَى) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ (مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ) : بَيَانٌ لِمَا يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ الشَّرْعِ هَذَا الِابْنُ أَخُوكِ، وَلَكِنَّ التَّقْوَى أَنْ تَحْتَجِبِي مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عُتْبَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِالزِّنَى لَهُ حُكْمُ الْوَطْءِ بِالنَّفْخِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: لَا أَثَرَ لِوَطْءِ الزِّنَا، بَلْ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتَهَا، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْبِنْتِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا وَقَالُوا: وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ سَوْدَةَ أُمِرَتْ بِالِاحْتِجَابِ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنَ الزِّنَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْ سَوْدَةَ لَا يَحِلُّ الظُّهُورُ لَهُ، سَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالزَّانِي أَمْ لَا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَحِلِّ الْمَحْكُومُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ; لِأَنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّهُ أَخٌ لَهُ، وَلِسَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute