قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَهَارُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَعَ الْعَزْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَثْبُتُ إِذَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا، وَلَوْ وَطِئَ فِي دُبُرِهَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ، هُوَ وَجْهٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَصْلُ دَلِيلِهِمْ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتِ: «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْنِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ - فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ) : فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةَ قَطُّ» . وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا قَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وَرِثَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ أَخُوهُ، وَلِذَا قَالَ: (هُوَ لَكَ) : وَلَمْ يَقُلْ هُوَ أَخُوكَ، وَقَالَ: ( «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» ) : وَلَوْ كَانَ أَخَاً لَهَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبِ احْتِجَابُهَا مِنْهُ، فَهَذَا دَفْعٌ بِانْتِفَاءِ لَازِمِ الْإِخُوَّةِ شَرْعًا، وَالْأَوَّلُ بِاللَّفْظِ نَفْسِهِ، وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ) : وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ، فَمَا رَأَى مِنَ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ، وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ أَيْضًا بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ حِينَئِذٍ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَةِ: (هُوَ لَكَ) : وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَلَا تُعَارِضُهَا الشَّاذَّةُ، وَالشَّبَهُ لَا يُوجِبُ احْتِجَابَ أُخْتِهِ شَرْعًا مِنْهُ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْآنَ وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْبَهَ غَيْرَ أَبِيهِ الثَّابِتِ نَسَبُهُ مِنْهُ يَجِبُ حُكْمًا لِلشَّبَهِ احْتِجَابُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَجِدَّتِهِ لِأَبِيهِ مِنْهُ، هُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا، وَقَوْلُهُ: (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : انْتَفَى بِهِ نَسَبُهُ عَنْ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، وَعَنْ عَبْدٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ يَعْنِي الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلَا فِرَاشَ لِوَاحِدٍ مِنْ عُتْبَةَ وَزَمْعَةَ، وَبِهِ يَقْوَى مُعَارَضَةُ رِوَايَةِ: (هُوَ أَخُوكَ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: ٣٢] وَعَلَى هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْوَلِيدَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَلَدَتْ لِزَمْعَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ: (هُوَ لَكَ) : أَيْ: مَقْضِيٌّ لَكَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخُوكَ كَمَا فِي الرِّاوِيَةِ الْأُخْرَى، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِيَنِّي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ وَلَدَهَا بِهَا، فَاعْتَزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ اتْرُكُوا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِهِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ فَشَقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِمَّنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ رَاعِي الْإِبِلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ فَحَمَلَتْ فَقَالَ: لَيْسَ مِنِّي إِنِّي أَتَيْتُهَا إِتْيَانًا لَمْ أُرِدْ بِهِ الْوَلَدَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَةً فَارِسِيَّةً وَيَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ وَجَلَدَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: مِمَّنْ حَمَلْتِ؟ فَقَالَتْ: مِنْكَ. فَقَالَ: كَذَبْتِ، مَا وَصَلَ إِلَيْكِ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا: وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَلْحَقُ الْوَاطِئَ مُطْلَقًا جَازَ لِكَوْنِهِ عَلِمَ مِنْ بَعْضِهِمْ إِنْكَارًا، مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُهُ، وَذَلِكَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاطِئَ إِذَا لَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، فَقَدْ عَلِمَ مِنَ النَّاسِ إِنْكَارَ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مُطْلَقًا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مُلْحِقٌ بِكُمْ إِيَّاهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاعْتِزَالُ فِي الْأَمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِهِ الْوَلَدَ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ، مَا لَمْ يَدَعْهُ حُكْمٌ فِي الْقَضَاءِ يَعْنِي لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ بِلَا دَعْوَةٍ، وَأَمَّا الدِّيَانَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حِينَ وَطِئَهَا لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، وَحَصَّنَهَا عَنْ مَظَانِّ رِيبَةِ الزِّنَى يَلْزَمُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَّعِيَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَوْنُهُ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ، وَفِي الْمَبْسُوطِ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ، حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا، تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا، وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ يَكُونُ مُحَالًا عَلَيْهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ) . وَفِي الْإِيضَاحِ: ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُحِبُّ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ. وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute