قَالَ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُهُ: (الْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) : يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِنَفْيِ الْحِلْفِ الْمَخْصُوصِ فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ جَمَعَتْهُمْ وَجَعَلَتْهُمْ يَدًا وَاحِدَةً لَا يَسَعُهُمُ التَّخَاذُلُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نُصْرَةُ أَخِيهِ. قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: ١٠] وَقَوْلُهُ: (يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ) : كَالْبَيَانِ لِلسَّابِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِالْعَاطِفِ يَعْنِي إِذَا كَانُوا فِي حُكْمِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ فَهُمْ سَوَاءٌ فَالْأَدْنَى كَالْأَعْلَى يُعْطِي الْأَمَانَ لِمَنْ شَاءَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَيَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعِيدَتِهِمْ) : جِيءَ بِلَا وَاوٍ بَيَانًا وَهُوَ يَنْصُرُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ مِنْ كِتَابِ الْقِصَاصِ، وَإِنْ رُوِيَ بِالْوَاوِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَبِالْعَكْسِ لِاقْتِضَاءِ الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِالْقَعِيدَةِ الْجُيُوشَ النَّازِلَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَبْعَثُونَ سَرَايَاهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فَمَا غَنِمَتْ يُرَدُّ مِنْهُ عَلَى الْقَاعِدِينَ حِصَّتَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رِدَاءً لَهُمْ (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ) : أَيْ: حَرْبِيٍّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ ذِمِّيًّا (دِيَةُ الْكَافِرِ) : أَيِ: الذِّمِّيِّ (نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ) .
قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ دِيَتَهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، غَيْرَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَمْ يُقَدْ بِهِ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: دِيَتُهُ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِيَتُهُ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ. مِنْ شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الشَّمَنِيُّ لِلشَّافِعِيِّ: مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ الْعُقُولِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ» ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَضَى فِي الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَرَوَى أَيْضًا فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَضَى عُثْمَانُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» ) . وَوَقَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى سَعِيدٍ، وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَانَ عَقْلُ الذِّمِّيِّ مِثْلَ عَقْلِ الْمُسْلِمِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَزَمَنِ عُمَرَ، وَزَمَنِ عُثْمَانَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، حَتَّى كَانَ صَدْرٌ مِنْ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنْ كَانَ أَهْلُهُ أُصِيبُوا بِهِ فَقَدْ أُصِيبَ بِهِ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَاجْعَلُوا لِبَيْتِ الْمَالِ النِّصْفَ، وَلِأَهْلِهِ النِّصْفَ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ قُتِلَ آخَرُ مَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى هَذَا الَّذِي يَدْخُلُ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَهُ وَضْعًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَوْنًا لَهُمْ. قَالَ: فَمِنْ هُنَالِكَ وَضَعَ عَلَيْهِمْ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: دِيَةُ الْمُعَاهِدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرُفِعَ إِلَى عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ رَحْمَوَيْهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ الْمُعَاهِدَيْنِ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ كُلِّ ذِمِّيٍّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَهُوَ قَوْلِي وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مَعْصُومُ الدَّمِ، فَتَكْمُلُ دِيَتُهُ كَالْمُسْلِمِ، (لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا. وَقَدْ سَبَقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute