للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ: وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ نَفْسِهِ، بِأَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ مَبْدَأِ فِطْرَتِهِ إِلَى مُنْقَرَضِ عُمْرِهِ وَلَمْ تَتَفَاوَتْ قَامَتُهُ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ هَيْئَتُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ أَوَّلًا نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا وَأَعْصَابًا عَارِيَةً، ثُمَّ عِظَامًا وَأَعْصَابًا مَكْسُوَّةً لَحْمًا، ثُمَّ حَيَوَانًا مُخَبَّيًا فِي الرَّحِمِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ بَلْ يَتَغَذَّى مِنْ عِرْقٍ كَالنَّبَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ مَوْلُودًا رَضِيعًا، ثُمَّ طِفْلًا مُتَرَعْرِعًا ثُمَّ مُرَاهِقًا ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا.

ثَانِيهَا: أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ حَالٍ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ مَرَّةً بِالْعِلْمِ، وَأُخْرَى بِالْجَهْلِ وَتَارَةً بِالْغِوَايَةِ وَالْعِصْيَانِ وَأُخْرَى بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَحْظَةً يُقْرَنُ بِالشَّيْطَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْعِصْيَانِ وَالْإِخْرَاجِ عَنِ الْجِنَانِ وَلَحْظَةً يَتَّسِمُ بِسِمَةِ الِاجْتِبَاءِ وَيُتَوَّجُ بِتَاجِ الْخِلَافَةِ وَالِاصْطِفَاءِ وَبُرْهَةً يُسْتَعْمَلُ بِتَدْبِيرِ الْأَرَضِينَ وَسَاعَةً يَصْعَدُ بِرُوحِهِ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَطَوْرًا يُشَارِكُ الْبَهَائِمَ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَنْكَحِهِ وَطَوْرًا يُسَابِقُ الْكُرُوبِيِّينَ فِي فِكْرِهِ وَذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَرَعَهَا اخْتِرَاعًا عَظِيمًا فِي خَلْقِهِ، إِذْ كَلُّ مَخْلُوقٍ قَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالٌ لَهُ، فَيُخْلَقُونَ عَلَى صُورَةِ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا آدَمُ فَاخْتُرِعَ خَلْقًا جَدِيدًا عَجِيبًا مَلَكِيُّ الرُّوحِ، حَيَوَانِيُّ الْجِسْمِ، مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ عَلَى مِثَالٍ لَهُ تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: ارْتَجَلَ صُورَتَهُ اخْتِرَاعًا لَا تَشْبِيهًا بِمُقَدَّمٍ، وَلَا مُحَاذِيًا بِخَلْقٍ آخَرَ، بَلْ تَوَلَّى الْقَدِيمُ بِنَفْسِهِ خَلْقَ هَذِهِ الصُّورَةِ إِبْدَاعًا جَدِيدًا لَمْ يَسْبِقْهُ مَا يُشْبِهُهُ بِصِفَةٍ مَا، وَتَعْظِيمُ وَجْهِ الْإِنْسَانِ إِمَّا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَجْزَائِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ أَكْثَرُ الْحَوَاسِّ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا عُدِمَ عُدِمَ الْكُلُّ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ إِضْمَارٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْمَضْرُوبُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، فَاجْتَنِبُوا ضَرْبَ الْعُضْوِ الْأَشْرَفِ احْتِرَامًا لَهُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَجْهَ آدَمَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَضْرُوبِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَهُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْوَجْهِ يَعْنِي فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى كَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ بِأَحْسَنِ صُورَةٍ، وَجَمَعَ فِيهِ الْمَحَاسِنَ وَالْحَوَاسَّ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ قَدْ يَنْقُصُهَا وَيُشَوِّهُ الْحُسْنَ وَيُظْهِرُ الشَّيْنَ الْفَاحِشَ وَلَا يُمْكِنُ سَتْرُهُ، وَخُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، فَلَا تَضْرِبْهُ تَكْرِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ ; فَإِنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَ فَقَدْ أَهَنْتَهَا وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا فَتَلْعَنُونَهُ أَنْكَرَ اللَّعِينَ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ» ) . كَمَا مَنَعَ الضَّرْبَ عَلَى الْوَجْهِ تَعْظِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ قَالَ: وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا كَالْإِضَافَةِ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، لِمَا صَحَّ مِنْ طُرُقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَابِتٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مَنْ نَقَلَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ اهـ كَلَامُهُ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ.

أَوَّلُهَا: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا كَالصُّوَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ; لِأَنَّ الصُّورَةَ تُفِيدُ التَّرْكِيبَ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْدَثٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: الْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ مَدْفُوعَانِ بِقَوْلِهِ: لَا كَالصُّوَرِ، فَهُوَ نَظِيرٌ لِكَلَامِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الْيَدِ وَالْعَيْنِ لَهُ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْجَارِحَةِ لَهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَقَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ لِمَا سَمِعُوا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ طَرَدُوا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. أَقُولُ: إِنَّ الْيَدَ وَالْعَيْنَ وَالشَّيْءَ، وَكَذَا الصُّورَةَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا ثَبَتَ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ تَعَالَى، فَيُحَبُّ إِثْبَاثُهَا وَتَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَمَّا يُرَادِفُهَا بِخِلَافِ الْجِسْمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِطْلَاقَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا فِي كِتَابٍ، وَلَا فِي سُنَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ: الْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي صُورَةٍ لَا كَالصُّوَرِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ عَلَى رَأْيِهِ يَقْتَضِي خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، فَالصُّورَتَانِ عَلَى رَأْيِهِ سَوَاءٌ، فَإِذَا قَالَ: لَا كَالصُّوَرِ نَاقَضَ كَلَامَهُ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ عَدَمِ الْمُنَاقَضَةِ فِي كَلَامِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَرَامِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، صُورَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ حَيْثُ اتَّصَفَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، مَعَ أَنَّ الْحَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَحَلَّهُ.

وَثَانِيهَا: قَوْلُ الْقَاضِي إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَةٍ اجْتَبَاهَا وَجَعَلَهَا نُسْخَةً مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، إِذْ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إِلَّا وَلَهُ مِثَالٌ فِي صُورَتِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْإِنْسَانُ عَالَمٌ صَغِيرٌ أَقُولُ: بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>