الْأُولَى، بَلْ قِيلَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، (وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ) : أَيِ: التَّحَوُّلَ (فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ: أَيْ: مِنَ الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ كَانَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حِينِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَمْرَهُمُ الْإِمَامُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ كَافِيًا أَوْ لَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ إِلَى الْجِهَادِ إِنْ كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ بِهِ الْكِفَايَةُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ: أَيْ: مِنَ الْغَزْوِ (فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا) : أَيْ: مِنْ دَارِهِمْ (فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ) : أَيِ: الَّذِينَ لَازَمُوا أَوْطَانَهُمْ فِي الْبَادِيَةِ لَا فِي دَارِ الْكُفْرِ (يُجْرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ ; أَيْ: يُمْضَى (عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يُجْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : أَيْ: مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَنَحْوِهِمَا (وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) : مِنْ بَابِ مَا أُضْمِرَ عَامِلُهُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالتَّقْدِيرُ لِتَكْرِيرِ الْإِسْنَادِ فِي التَّعْبِيرِ ; أَيْ: فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ (فَسَلْهُمْ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ ; أَيْ: فَاطْلُبْ مِنْهُمُ (الْجِزْيَةَ) : وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَصْلَةِ الثَّانِيَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُعْطَى الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَوَّلُوا وَكَانُوا فُقَرَاءَ مَسَاكِينَ، وَلَا تُعْطَى الصَّدَقَاتُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْمَالَانِ سَوَاءٌ يَجُوزُ صَرْفُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى النَّوْعَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا، كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَجُوسِهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ أَعْرَابًا كَانُوا أَوْ أَعَاجِمَ، وَيَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَبِحَدِيثِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ تَخْصِيصُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ، أَوِ السَّيْفُ عَلَى مَا سَيَتَّضِحُ، (فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ) : أَيْ: قَبِلُوا بَذْلَ الْجِزْيَةِ، وَكَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ (فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ) : فِي الْهِدَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا.
قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، بَلْ هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْنَدِهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيُّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَانَتْ لَهُ ذِمَّتُنَا فَدَمُهُ كَدَمِنَا وَدِيَتُهُ كَدِيَتِنَا، وَضَعَّفَ الطَّبَرَانِيُّ أَبَا الْجَنُوبِ، (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) : أَيْ: عَنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ (فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ) : إِشَارَةٌ إِلَى الْخَصْلَةِ الثَّالِثَةِ (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ) : أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (فَأَرَادُوكَ) ; أَيْ طَلَبُوا مِنْكَ (أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ) ; أَيْ: عَهْدَهُمَا وَأَيْمَانَهُمَا (فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ) : أَيْ: بِالِاجْتِمَاعِ وَلَا بِالِانْفِرَادِ (وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ) : وَهُوَ بِالْخِطَابِ عَلَى مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّهُمْ بِالْغَيْبَةِ (أَنْ تُخْفِرُوا) : مِنَ الْإِخْفَارِ ; أَيْ: تَنْقُضُوا (ذِمَمِكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ " أَنْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَأَنَّ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَخَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: (أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ) : وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ " إِنْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُشْكِلٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَهْوَنُ بِتَقْدِيرِ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَالْفَاءُ لَازِمَهُ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute