قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ: أَنَّ السَّلَبَ لَا يُعْطَى إِلَّا لِمَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ قَتَلَ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّهُ الْقَاتِلُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَقَدْ صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مَنْسُوبًا إِلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَهُنَا مَنْسُوبٌ إِلَى جَمِيعِ الْجَيْشِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: السَّلَبُ لَا يَكُونُ لِلْقَاتِلِ إِذَا لَمْ يُنَفِّلُ الْإِمَامُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثٍ آخَرَ «لَيْسَ لَكَ مِنْ سَلَبِ قَتِيلِكَ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ» . وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ السَّلَبَ، سَوَاءٌ قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلَ أَمْ لَا. قَالُوا: وَهَذَا فَتْوَى مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ قَبْلَ الْقِتَالِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَجَعَلُوا هَذَا إِطْلَاقًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ بِفَتْوَى مِنْهُ وَلَا إِخْبَارٍ عَامٍّ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةً لِمَا قَالَهُ قَبْلَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفٍ: قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ فَقَبْلَ التَّقْيِيدِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ: " «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ فَصَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ بَعْدَ الْقَوْلِ فَيُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ بِهِ، وَفِي التَّكْرَارِ الْآتِي دَلِيلٌ ; أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْتَاءٍ وَإِخْبَارٍ، بَلْ لِإِجْرَاءِ الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا لَمْ يُجْعَلِ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. (فَقُلْتُ) : أَيْ: فِي نَفْسِي، أَوْ جِهَارًا وَفِي رِوَايَةٍ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ (مَنْ يَشْهَدُ لِي؟) : أَيْ: بِأَنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ سَلَبُهُ لِي (ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ) : أَيْ: مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ (فَقُلْتُ) : أَيْ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ (مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟) ; أَيْ تَقُومُ وَتَجْلِسُ عَلَى هَيْئَةِ طَالِبٍ لِغَرَضٍ، أَوْ صَاحِبِ غَرَضٍ (فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ) ; أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي) : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَيْ: فَأَعْطِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ السَّلَبِ لِيَكُونَ لِي، أَوْ أَرْضِهِ بِالْمُصَالَحَةِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَنْ " فِيهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ; أَيْ: أَرْضِ أَبَا قَتَادَةَ لِأَجْلِي وَمِنْ جِهَتِي، وَذَلِكَ إِمَّا بِالْهِبَةِ، أَوْ بِأَخْذِهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ بَدَلِهِ. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ) : بِالْجَرِّ ; أَيْ: لَا وَاللَّهِ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ ; أَيْ: إِذَا صَدَقَ أَبُو قَتَادَةَ (لَا يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ (إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَقِيلَ بِضَمِّهِمَا جَمْعُ أَسَدٍ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى لَا يَقْصِدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى إِبْطَالِ حَقِّهِ وَإِعْطَاءِ سَلَبِهِ إِيَّاكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِذًا بِالْأَلِفِ قَبْلَ الذَّالِ، وَأَنْكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ اهـ كَلَامُهُ.
وَلَقَدْ أَطَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ مَقَالِ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَعَ تَعَارُضِ تَقْدِيرَاتِهِمْ وَتَنَاقُضِ تَقْدِيرَاتِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَكُونُ يَمِينًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَ مُتَعَارَفَةً فِي الْأَيْمَانِ (يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) : أَيْ: لِرِضَاهُمَا وَنُصْرَةِ دِينِهِمَا (فَيُعْطِيكَ) : أَيْ: هُوَ، أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَلَبَهُ) : أَيْ جَمِيعَهُ، أَوْ بَعْضَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ:، قَوْلُهُ: عَنِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute