فَإِنْ قِيلَ: فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي ذِكْرِ سَهْمِ الْيَتِيمِ حَيْثُ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لَا بِالْيَتِيمِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ فَائِدَتَهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْجِهَادِ وَالْيَتِيمُ صَغِيرُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ: لَمَّا كَانَ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ بِالْفَقْرِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. أَجَابَ: بِأَنَّ أَفْهَامَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ تَقْضِي إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ وَفِي التُّحْفَةِ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَصَارِفُ الْخُمُسِ عِنْدَنَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ، حَتَّى لَوْ صُرِفَ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِذَوِي الْقُرْبَى خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَحْمَدُ وَعِنْدَ مَالِكٍ: الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى غَيْرَهُمْ إِنْ كَانَ أَمْرُهُمْ أَهَمَّ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: ١١] وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَرَابَاتِ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا تَخُصُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَالْخِلَافُ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَعَدَمِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَيُدْفَعُ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ النَّصِّ لِلشَّافِعِيِّ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: ٤١] بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفٍ يُوجِبُ أَنَّ مَبْدَأَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لَهُ، وَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا بِخِلَافِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِيهِمُ الْفَقْرَ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ، فَكَانَ مُقَيَّدًا مَعْنًى بِهَا بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ لَا يَنْتَفِي مُنَاسَبَتُهَا بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْكَرَامَةِ. وَلَنَا: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَحَدٌ مَعَ عِلْمِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَتَوَافُرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِلَّهِ وَالرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ» . وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَدَعَا مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ قَالَ: سَلَكَ أَبِي وَاللَّهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ. قُلْتُ: فَمَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: كَرِهَ وَاللَّهِ أَنْ يُدْعَى بِخِلَافِ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اهـ.
وَكَوْنُ الْخُلَفَاءِ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَبِهِ تَصِحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّ الْكَلْبِيَّ مُضَعَّفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ وَافَقَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا إِجْمَاعَ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَحِينَ ثَبَتَ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ لِاجْتِهَادِهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ، كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحِينَ وَافَقَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمَا إِنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ، وَكَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ: وَلَا إِجْمَاعَ دُونَ أَهْلِ الْبَيْتِ ; لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ لِكَرَاهَةِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ خِلَافُهُمَا، وَكَيْفَ وَفِيهِ مَنْعُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنْ حَقِّهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ إِلَّا لِرُجُوعِهِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ لَهُ. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَ فَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الرَّاشِدِينَ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِعَدَمِ التَّنْكِيرِ مِنْ أَحَدٍ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ سَهْمٌ مُسْتَحَقًّا لِذَوِي الْقُرْبَى أَصْلًا ; لَأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ. أُجِيبَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ، لِمَا أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا إِلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعِينُ بِكُمَا عَلَى صَدَقَاتٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ بِحَاجَتِهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا: لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute