لَكَ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَلَا أَحَدَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دَفْعُهُ عَنْكَ بِضَرْبٍ وَقَتْلٍ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ بِالْهَوَامِّ وَالدَّوَابِّ الَّتِي قَدْ سُخِّرَتْ لَهُ وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ؟ فَإِذَا آذَيْنَهُ أُبِيحَ لَهُ قَتْلُهَا. وَقَوْلُهُ: فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي يُقْتَلُ، وَكُلُّ قَتْلٍ كَانَ لِنَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَخُصَّ تِلْكَ النَّمْلَةَ الَّتِي لَدَغَتْ مِنْ غَرَرِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَصَّاصَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَقَالَ: هَلَّا نَمْلَتُكَ الَّتِي لَدَغَتْكَ، وَلَكِنْ قَالَ: هَلَّا نَمْلَةٌ فَكَانَ يَعُمُّ الْبَرِيءَ وَالْجَانِيَ، وَذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ تَنْبِيهَهُ لِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ فِي عَذَابِ أَهْلِ قَرْيَةٍ فِيهِمُ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، وَقَدْ قِيلَ فِي شَرْعِ هَذَا النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِلْحَيَوَانِ بِالتَّحْرِيقِ جَائِزَةً، فَلِذَلِكَ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِحْرَاقِ الْكَثِيرِ لَا فِي أَصْلِ الْإِحْرَاقِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ بِخِلَافِ شَرْعِنَا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَقَالَ: لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَجُوزُ إِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ إِلَّا إِذَا أَحْرَقَ إِنْسَانًا فَمَاتَ بِالْإِحْرَاقِ فَلِوَارِثِهِ الِاقْتِصَاصُ بِالْإِحْرَاقِ. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَأَمَّا قَتْلُ النَّمْلِ فَمَذْهَبُنَا لَا يَجُوزُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ النَّمْلُ السُّلَيْمَانِيُّ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُسَمَّى بِالذَّرِّ فَقَتْلُهُ جَائِزٌ، وَكَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ النَّمْلِ إِلَّا أَنْ يَضُرَّ وَلَا يُقْدَرَ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَقِيلَ إِنَّمَا عَاتَبَ اللَّهُ هَذَا النَّبِيَّ لِانْتِقَامِهِ لِنَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ جَمْعٍ، وَإِنَّمَا أَذَاهُ وَاحِدٌ مِنْهُ وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الصَّبْرَ وَالصَّفْحَ، لَكِنْ وَقَعَ لِلنَّبَيِّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُؤْذٍ لِبَنِي آدَمَ وَحُرْمَةُ بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَلَوِ انْفَرَدَ لَهُ النَّظَرُ وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ التَّشَفِّي الطَّبِيعَيُّ لَمْ يُعَاتَبْ، فَعُوتِبَ عَلَى التَّشَفِّي بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْهُدْهُدُ فَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ، وَلِأَنَّهُ مُنْتِنُ الرِّيحِ وَيَقْتَاتُ الدُّودَ وَقِيلَ: يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَعِنْدَهُ لَا يَفْتَدِي إِلَّا الْمَأْكُولُ. وَفِي الْكَامِلِ وَشُعَبِ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ نَافِعًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُلْكِ وَأَعْطَاهُ كَيْفَ عُنِيَ بِالْهُدْهُدِ مَعَ صِغَرِهِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ، وَالْهُدْهُدُ كَانَتِ الْأَرْضُ لَهُ مِثْلَ الزُّجَاجِ، وَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: قِفْ يَا وَقَّافُ، كَيْفَ يُبْصِرُ الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ وَلَا يَرَى الْفَخَّ إِذَا غُطِّيَ لَهُ بِقَدْرِ أُصْبُعٍ مِنْ تُرَابٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ عَمِيَ الْبَصَرُ. قُلْتُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ إِقْنَاعِيٌّ يَشْمَلُ مَا بِهِ أَمْرٌ قُدِّرَ فَإِنَّهُ كَانَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مِنْ خُصُوصِيَّتِهِ لَا كُلُّ شَيْءٍ مَدْفُونٍ فِي الْأَرْضِ لَكِنْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْعَطَشِ لَأُغْمِيَ عَلَيْهِ الْمَاءُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مُقَدَّرًا. فَإِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ ضَاقَ الْفَضَاءُ وَإِذَا حَصَلَ الْقَدَرُ بَطَلَ الْحَذَرُ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا حَكَى الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ الْهُدْهُدَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِي ضِيَافَتِي. قَالَ أَنَا وَحْدِي. قَالَ: لَا، أَنْتَ وَأَهْلُ عَسْكَرِكَ فِي جَزِيرَةِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا، فَحَضَرَ سُلَيْمَانُ بِجُنُودِهِ فَطَارَ الْهُدْهُدُ وَاصْطَادَ جَرَادَةً، فَخَنَقَهَا وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ: كُلُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ فَاتَهُ اللَّحْمُ نَالَهُ الْمَرَقُ فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ مِنْ ذَلِكَ حَوْلًا كَامِلًا. وَأَمَّا الضُّفْدَعُ، فَمِثَالُ الْخِنْصَرِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الدَّالِّ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَسْرُ الدَّالِّ وَفَتْحُهَا أَشْهَرُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْخَاصَّةِ. وَفِي كَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " مَنْ قَتَلَ ضُفْدَعًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حِلًّا، " قَالَ سُفْيَانُ: يُقَالُ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْثَرَ ذِكْرًا لِلَّهِ مِنْهُ، وَفِي كَامِلِ ابْنِ عِدَيٍّ فِي تَرْجَمَةِ حَمَّادِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّهُ رَوَى عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضُفْدَعًا أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَثَابَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بَرْدَ الْمَاءِ، وَجَعَلَ نَعِيقَهُنَّ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَالصُّرَدِ وَالنَّحْلَةِ» وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لِحَمَّادِ بْنِ عُبَيْدٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِصَحِيحِ الْحَدِيثِ، وُفِي كِتَابِ الزَّاهِدِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ، أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اللَّيْلَةَ تَسْبِيحًا مَا يُسَبِّحُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَنَادَتْهُ ضُفْدَعٌ مِنْ سَاقِيَةٍ فِي دَارِهِ: يَا دَاوُدُ تَفْخَرُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَسْبِيحِكَ وَإِنَّ لِي سَبْعِينَ سَنَةً مَا جَفَّ لِسَانِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّ لِي لَعَشْرَ لَيَالٍ مَا طَعِمْتُ خَضِرًا وَلَا شَرِبْتُ مَاءً اشْتِغَالًا بِكَلِمَتَيْنِ. فَقَالَ مَا هُمَا؟ فَقَالَتْ يَا مُسَبَّحًا بِكُلِّ لِسَانٍ وَيَا مَذْكُورًا بِكُلِّ مَكَانٍ. فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ: وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute