فِي مَدْحِي فَضْلًا عَنْ غَيْرِي ( «وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» ) أَيْ: لَا يَتَّخِذْنَّكُمْ جَرِيًّا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: كَثِيرَ الْجَرْيِ فِي طَرِيقِهِ وَمُتَابَعَةِ خَطَرَاتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَرَاءَةِ بِالْهَمْزَةِ أَيْ: لَا يَجْعَلَنَّكُمْ ذَوِي شَجَاعَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَجُوزُ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا يَغْلِبَنَّكُمْ فَيَتَّخِذَكُمْ جَرِيًّا أَيْ: رَسُولًا وَوَكِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَدَحُوهُ، فَكَرِهَ لَهُمُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَدْحِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا تَتَكَلَّفُوهُ، كَأَنَّكُمْ وُكَلَاءُ الشَّيْطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطِقُونَ عَلَى لِسَانِهِ. هَذَا زُبْدَةُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمُرَامِ.
وَقَدْ تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: وَأَفْضَلُنَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ سَيِّدُنَا كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُلَّ وَخَصَّ الرَّدَّ بِالسَّيِّدِ، فَأَدْخَلَ الرَّاوِي كَلَامَهُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْكُلِّ قَوْلُهُ: قُولُوا قَوْلَكُمْ، أَيْ: بِقَوْلِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَسُولُ اللَّهِ وَنَبِيُّ اللَّهِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: " قُولُوا قَوْلَكُمْ " يَعْنِي: قُولُوا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَا تُبَالِغُوا فِي مَدْحِي بِحَيْثُ تَمْدَحُونَنِي بِشَيْءٍ يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَلَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " قُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ دِينِكُمْ أَوْ مِلَّتِكُمْ، وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا كَمَا سَمَّانِيَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ ; لِأَنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْهُمْ، إِذْ كَانُوا يَسُودُونَكُمْ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَأَنَا أَسُودُكُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَسَمُّونِي رَسُولًا وَنَبِيًّا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: سَلَكَ الْقَوْمُ فِي الْخِطَابِ مَعَهُ مَسْلَكَهُمْ مَعَ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَهُمْ بِنَحْوِ هَذَا الْخِطَابِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، فَإِنَّهَا الْمَنْزِلَةُ الَّتِي لَا مَنْزِلَةَ وَرَاءَهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute