للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ فِيهِ أَقَاوِيلُ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَمْنَعْكَ الْحَيَاءُ فَعَلْتَ مَا شِئْتَ بِمَا تَدْعُوكَ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنَ الْقَبِيحِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: ٤٠] أَيِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِيكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ. وَثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ يَنْبَغِي أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ فَافْعَلْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَحْيَ مِنْهُ فَدَعْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ، ثُمَّ قَالَ جَرِيرٌ: مَعْنَاهُ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْمَلَ الْخَيْرَ فَيَدَعَهُ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ يَخَافُ مَذْهَبَ الرِّيَاءِ يَقُولُ: فَلَا يَمْنَعْكَ الْحَيَاءُ مِنْ مُضِيِّ مَا أَرَدْتَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا جَاءَكَ الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَقَالَ: إِنَّكَ مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ كَلَامُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِهِمْ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُخَلِّصَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِلْإِبَاحَةِ أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ النَّاسِ فِي فِعْلِهِ فَافْعَلْهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَزُبْدَةُ كَلَامِهِ أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ مِنْ صُنْعِ أَمْرٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ارْتِكَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى هَذَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ يُسْتَحَى مِنْهَا أَمْ لَا. فَالْأَوَّلُ يَشْمَلُ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ، وَتَرْكُهُمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَالثَّانِي: يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ، وَفِعْلُهَا مَشْرُوعٌ فِي الْأَوَّلَيْنِ جَائِزٌ فِي الثَّالِثِ، فَعَلَى هَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَدِيثُ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَيَاءَ يَنْشَأُ عَنْ عِلْمِ الْقَلْبِ بِأَنَّ اللَّهَ رَقِيبٌ عَلَيْهِ فَيُحَافِظُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا صَدَرَ مِنْ هَفَوَاتِهِ، وَيَتَحَمَّلُ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ فِي نَظَرِهِ نَشِيطًا وَلَا يَشْتَكِي إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا تَرَقَّى عَنْ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ، اسْتَحْيَا مِنْ قُرْبِهِ فَوْقَ مَا يَسْتَحْيِي مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَالْخَلْوَةِ مَعَهُ مُسْتَوْحِشًا مِنَ الْأَغْيَارِ مُسْتَلِذًّا بِرُوحِ أُنْسِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، حَتَّى تَطْلُعَ عَلَيْهِ طَوَالِعُ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ، وَتَلْمَعَ فِي سَرْدِ بِوَارِقِ أَسْرَارِ التَّفْرِيدِ، فَيَسْتَحْيِي مِنْ شُهُودِ مَشْهُودِهِ، فَانِيًا عَنِ الْخَلْقِ بَاقِيًا مَعَ الْحَقِّ. قَالَ الْعَارِفُ السُّهْرَوَرْدِيُّ:

الْحَيَاءُ إِطْرَاقُ الرُّوحِ إِجْلَالًا لِعِظَمِ الْجَلَالِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَيَاءُ إِسْرَافِيلَ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّهُ يَسْتَتِرُ بِجَنَاحِهِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَيَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: إِنِّي لَأَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ. فَأَنْطَوِي حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قُلْتُ: رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ وَأَحْيَا أُمَّتِي عُثْمَانُ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>