تَرَكْتَ الْبَطْحَاءَ وَقَسَّمْتَ الْحَبَّ فِي الْعَدْلَيْنِ مُتَنَاصِفِينَ لَخَفَّ حِمْلُكَ وَرَكِبْتَ جَمَلَكَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ لِمَا صَدَرَ مِنْ فِيكَ فَأَطَاعَهُ فِيمَا بَيَّنَهُ، وَرَكِبَ عَلَى وَجْهِ عَيْنِهِ، فَسَأَلَهُ هَلْ أَنْتَ بِهَذَا الْعَقْلِ كُنْتَ فِي بِلَادِكَ سُلْطَانًا؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: فَوَزِيرًا فَأَمِيرًا فَتَاجَرَا فَرَئِيسًا فَصَاحِبَ إِبِلٍ وَصَاحِبَ خَيْلٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ زِرَاعَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَقَالَ: أَكُنْتَ فِي بَلَدِكَ فَقِيرًا عَلَى هَذَا الْحَالِ، وَحَقِيرًا عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَنْتَ شُؤْمٌ وَوَجْهُكَ شُؤْمٌ، وَمَنْ يَسْمَعُكَ أَيْضًا شُؤْمٌ، وَنَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ وَأَمَرَ عَلَى تَغْيِيرِهِ مِنْ سُوءِ تَدْبِيرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مُشَاهَدٌ فِي الْعَالِمِ كَثِيرًا. مَثَلًا إِذَا كَانَ الْعَالِمُ فَقِيرًا وَالشَّيْخُ إِذَا كَانَ حَقِيرًا حَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى كَلَامِهِ، وَلَا يَعْظُمُ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِ بِخِلَافِ الْعَالِمِ، وَالشَّيْخُ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا وَعُلِمَ جَاهُهُ بَيْنَ الْعَوَامِّ مَنْشُورًا، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُتَّبَعُ فِعْلُهُ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَاقِصًا فِي عِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ تَارِكًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: ٣١] وَأَرَادُوا بِالْقَرْيَتَيْنِ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ كَأَنَّ كُلَّ أَهْلِ قَرْيَةٍ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَلَفَّ الشَّرَّ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: ٣٢] .
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا ") أَيْ: هَذَا الرَّجُلُ: وَحْدَهُ وَكَذَا أَمْثَالُهُ (" خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ") أَيْ: مِثْلَ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْفَقِيرَ لِصَفَاءِ قَلْبِهِ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَرْتَبَةِ حُبِّهِ بِخِلَافِ الْأَغْنِيَاءِ الْأَغْبِيَاءِ، فَإِنَّ لَهُمُ الطُّغْيَانَ وَالِاسْتِغْنَاءَ وَالتَّكَبُّرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: ١٤٦] وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ وَمَرْئِيٌّ فِي تَلَامِذَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُرِيدِي الصُّلَحَاءِ وَالتَّابِعِينَ أَوَّلًا لِلْأَنْبِيَاءِ، بَلِ السَّابِقِينَ إِلَى الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الْحَجِّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ إِلَّا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَالْفَائِزُونَ بِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَكَاسِبِ الْكَاسِدَةِ إِنَّمَا هُمُ الْفُقَرَاءُ، هَذَا وَقَالَ شَارِحٌ: مِثْلَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي مِلْءِ الْأَرْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَعَ مِلْءُ الْأَرْضِ فَضْلًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مُمَيِّزِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِثْلَ هَذَا لِأَنَّ الْبَيَانَ وَالْمُبَيَّنَ شَيْءٌ وَاحِدٌ انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْجَرِّ أَيْ: مِنْ مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ النُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ مِنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَغَيْرِهَا عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، وَلَا يَغُرُّكَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِثْلِ هَذَا بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ وَاحِدٌ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْخَاصِّ بِلَفْظِ الْعَامِّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ، فَإِنَّ الْغِنَى يُغَيِّرُ الْخَوَاصَّ وَالْعَوَامَّ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ الْأَوَّلِ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ لِعَدَمِ انْتِظَامِ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " هَذَا خَيْرٌ " بِمَعْنَى أَفْضَلُ مِنْهُ إِذْ لَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كُفَّارِ الْأَنَامِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ: إِنَّ مَنْ قَالَ النَّصْرَانِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْيَهُودِيِّ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ إِذَ أَثْبَتَ الْخَيْرَ فِيمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالْخَيْرِ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: ٨٢] كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ بِالْخَيْرِ مُجَرَّدُ زِيَادَةِ الْحُسْنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: ٢٤] لَكِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ الْفَقِيرِ الدَّنِيِّ أَخَفُّ مِنَ الْكَافِرِ الْغَنِيِّ، فَإِذَا كَانَ الْفَقِيرُ يَنْفَعُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْعِهِ لِلْأَبْرَارِ فِي دَارِ الْقَرَارِ؟ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute