للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَالْمَعْنَى: لَوْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ ذِكْرِ قَاطِعِ اللَّذَّاتِ (" لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى ") أَيْ: مِنَ الضَّحِكِ وَكَلَامِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ (" الْمَوْتِ ") بِالْجَرِّ: تَفْسِيرٌ لِهَادِمِ اللَّذَّاتِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، كَمَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدَهُ، وَبِالنَّصْبِ: بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَبِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ هُوَ الْمَوْتُ، (" فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ ") أَيِ: الْمَوْجُودَةِ الْمَعْمُولَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَالْمَفْقُودَةِ الْمَسْؤُولَةِ لِلْفُقَرَاءِ، فَهُوَ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ يُحْيِي الْقَلْبَ النَّائِمَ، وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَلِيُّ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ الْمُتَّقِي يَعْمَلُ كِيسًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَوْتِ، يُعَلَّقُ فِي رَقَبَةِ الْمُرِيدِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَيَقْصُرُ أَمَلُهُ وَيَكْثُرُ عَمَلُهُ، وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَاطِينِ أَمَرَ وَاحِدًا مِنْ أُمَرَائِهِ أَنْ يَقِفَ دَائِمًا مِنْ وَرَائِهِ يَقُولُ: الْمَوْتَ الْمَوْتَ لِيَكُونَ دَوَاءً لِدَائِهِ، ثُمَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لِلصَّحَابَةِ وَجْهَ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِإِكْثَارِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَأَسْبَابِهِ بِقَوْلِهِ: (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ ") أَيْ: وَقْتُ زَمَانٍ (" إِلَّا تَكَلَّمَ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بَيَانِ الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (" فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ ") أَيْ: فَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ (" وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ ") أَيْ: فَلَا يَنْفَعُ إِلَّا التَّوْحِيدُ وَشُهُودُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (" وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ ") أَيْ: أَصْلُ كُلِّ حَيٍّ مَخْلُوقٍ، فَمَنْ مَرْجِعُهُ لِلتُّرَابِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ لِئَلَّا تَفُوتَهُ جِنْسِيَّةُ الْمُنَاسَبَةِ، (" وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ ") أَيْ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِمَّتُكُمْ وَنَهْمَتُكُمْ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ; لِأَنَّ مَآلَ أَمْرِهَا إِلَى الْفَنَاءِ، وَلَا يَنْفَعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَالْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلِ، قِيلَ: يَتَوَلَّدُ الدُّودُ مِنَ الْعُفُونَةِ وَتَآكُلِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِلَى أَنْ تَبْقَى دُودَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَمُوتُ جُوعًا، وَاسْتَثْنَى الْأَنْبِيَاءَ، وَالشُّهَدَاءَ، وَالْأَوْلِيَاءَ، وَالْعُلَمَاءَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الشُّهَدَاءِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: ١٦٩] ، وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ مِدَادُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ، (" وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ ") أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ (" مَرْحَبًا ") أَيْ: أَتَيْتَ مَكَانًا وَاسِعًا لِرَقْدَتِكَ (" وَأَهْلًا ") أَيْ: وَحَضَرْتَ أَهْلًا لِمَحَبَّتِكَ (" أَمَا ") بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنْ كُنْتَ ") أَيْ: إِنَّهُ كُنْتَ فَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنِ النَّافِيَةِ فِي قَوْلِهِ: (" لَأَحَبُّ ") وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: لَأَفْضَلُ (" مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ ") : مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبَّ (" فَإِذْ ") بِسُكُونِ الذَّالِ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي إِذْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ إِذِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ هُنَا ظَرْفٌ مَحْضٌ، وَالْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا أَيْ: فَحِينَ (" وُلِّيتُكَ ") : مِنَ التَّوْلِيَةِ مَجْهُولًا، أَوْ مِنَ الْوَلَايَةِ مَعْلُومًا أَيْ: صِرْتُ قَادِرًا حَاكِمًا عَلَيْكَ (" الْيَوْمَ ") أَيْ: هَذَا الْوَقْتَ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ (" وَصِرْتَ إِلَيَّ ") أَيْ: مَقْهُورًا وَمَجْبُورًا (" فَسَتَرَى ") أَيْ: سَتُبْصِرُ أَوْ تَعْلَمُ (" صَنِيعِي بِكَ ") : مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْكَ بِالتَّوْسِيعِ عَلَيْكَ.

(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِطُولِ الْكَلَامِ ; وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي تَفْسِيرٌ لِلْمَرَامِ (" فَيَتَّسِعُ ") أَيْ: فَيَصِيرُ الْقَبْرُ وَسِيعًا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَيُوَسَّعُ (" لَهُ ") أَيْ: لِلْمُؤْمِنِ (" مَدَّ بَصَرِهِ ") أَيْ: مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَقِيقَةً، أَوْ كَشْفًا، أَوْ مَجَازًا عَنْ عَدَمِ التَّضْيِيقِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْوِيرِهِ أَيْضًا، (" وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ ") أَيْ: وَيُعْرَضُ لَهُ مَقْعَدُهُ مِنْهَا، يَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا، وَيَشُمُّ مِنْ طِيبِهَا، وَتَقَرُّ عَيْنُهُ بِمَا يَرَى فِيهَا مَنْ حُورِهَا وَقُصُورِهَا وَأَنْهَارِهَا وَأَشْجَارِهَا وَأَثْمَارِهَا، (" وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ ") أَيِ: الْفَاسِقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ الْفَاسِقُ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ لِقَوْلِهِ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ سَابِقًا، وَلِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِ الْقَبْرِ لَهُ بِكَوْنِهِ أَبْغَضَ مَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>