قُلْتُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِيفَتُهُ فِي خَلِيقَتِهِ، بَلْ وَيَدُلُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ " الْحَدِيثَ.
قَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ تَنَاوَلْتَ مُتَنَاوَلًا، إِنَّ أُمَّتِي سَمَّتْنِي عُمَرَ، فَلَوْ دَعَوْتَنِي بِهَذَا الِاسْمِ قَبِلْتُ، ثُمَّ وَلَّيْتُمُونِي أُمُورَكُمْ فَسَمَّيْتُمُونِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ دَعَوْتَنِي بِذَلِكَ كَفَاكَ، أَيْ: فِي رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ، فَهَذَا مِنْهُ تَوَاضُعٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَتَمَسْكُنٌ مَعَ الْخَالِقِ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ لَهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(ثُمَّ يَقُولُ سَفِينَةُ) أَيْ: لِرَاوِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ خِطَابُ الْعَامِّ (أَمْسِكْ) أَيْ: عُدَّ مُدَّةَ الْخِلَافَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ: امْسِكْ أَنِ اضْبُطِ الْحِسَابَ عَاقِدًا أَصَابِعَكَ حَتَّى يَكُونَ أَمْسِكْ مَحْمُولًا عَلَى أَصْلِهِ، اهـ. وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى احْسِبْ وَاحْفَظْ. (خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَةً) أَيْ: أَعْوَامٍ (وَعُثْمَانَ) أَيْ: خِلَافَتُهُ (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) وَفِي نُسْخَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَيْ: عَامًا (وَعَلِيٍّ) أَيْ: وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ (سِتَّةً) أَيْ: سِتَّةُ أَعْوَامٍ، فِعْلِيٌّ خَاتَمُ الْخُلَفَاءِ، كَالنَّبِيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَهْدِيُّ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَفِي الْجَامِعِ: " «الْخِلَافَةُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَفِينَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ» ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مَا تُوجَدُ فِي مَكَانِ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ عَلَى اتِّفَاقِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْ أَمْثَالِ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ التَّسَلُّطِ الَّتِي تُسَمَّى مُلْكًا ; لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى نِظَامِ حَالِ الْعَامَّةِ ; وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفِتْنَةِ الطَّامَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute