وَرُوحَ اللَّهِ) : أَضَافَهُ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى (وَكَلِمَتَهُ) أَيْ: خُلِقَ بِأَمْرِ (كُنْ) أَوْ كَلِمَتَهُ فِي دَعْوَتِهِ كَانَتْ مُسْتَجَابَةً، (قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ) : إِنَّمَا قَالَ كَذَا مَعَ أَنَّ خَطِيئَتَهُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ لَعَلَّهُ لِاسْتِحْيَائِهِ مِنِ افْتِرَاءِ النَّصَارَى فِي حَقِّهِ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ. (وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيْ: فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَانِعٌ مِنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عِصْمَتُهُ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَهْوٍ وَتَأْوِيلٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيهِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ لَوْ كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْزِيهٌ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ.
(قَالَ: فَيَأْتُونِّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: ٨٠] ، (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي) أَيْ: فَأَطْلُبُ الْإِذْنَ مِنْهُ ; لِلْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ (فِي دَارِهِ) أَيْ: دَارِ ثَوَابِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: ذَلِكَ تَحْتَ عَرْشِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ فَأَسْتَأْذِنُ فِي الدُّخُولِ عَلَى دَارِ رَبِّي (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ) أَيْ: فِي الدُّخُولِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِضَافَةُ دَارِ الثَّوَابِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُنَا كَإِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: ١٢٧] عَلَى أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَانًا لَا يَقِفُ فِيهِ دَاعٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ، وَلَا يَقُومُ بِهِ سَائِلٌ إِلَّا أُجِيبَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَاقِفِ فِيهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ حِجَابٌ، وَالْحِكْمَةُ فِي نَقْلِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَوْقِفِهِ ذَلِكَ إِلَى دَارِ السَّلَامِ لِعَرْضِ الْحَاجَةِ هِيَ أَنَّ مَوْقِفَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ مَوْقِفُ السِّيَاسَةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ حَقِّ الشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ كَرَامَتِهِ ; فَتَقَعُ الشَّفَاعَةُ مَوْقِعَهَا أَرْشَدَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ - إِلَى النَّقْلَةِ عَنْ مَوْقِفِ الْخَوْفِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَثَلُ الَّذِي يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ فِي مَوْقِفِ الْخِدْمَةِ لِيَكُونَ أَحَقَّ بِالْإِجَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَاهُ فَيُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَبْعَثُهُ فِيهِ.
(فَإِذَا رَأَيْتُهُ) أَيْ: بِارْتِفَاعِ الْحِجَابِ عَنِّي، وَفِي الْمَشَارِقِ: فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ بِزِيَادَةِ أَنَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِنِّي رَأَيْتُنِي، وَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، (وَقَعْتُ سَاجِدًا) أَيْ: خَوْفًا مِنْهُ وَإِجْلَالًا، أَوْ تَوَاضُعًا لَهُ وَإِذْلَالًا، أَوِ انْبِسَاطًا لَهُ وَإِذْلَالًا. (فَيَدَعُنِي) أَيْ: يَتْرُكُنِي (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي) أَيْ: فِي السُّجُودِ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَسْجُدُ قَدْرَ جُمُعَةٍ مِنْ جُمَعِ الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَاشِيَةِ مُسْلِمٍ، (فَيَقُولُ: ارْفَعْ) أَيْ: رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ (مُحَمَّدُ) أَيْ: يَا مُحَمَّدُ ; فَإِنَّكَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (وَقُلْ) أَيْ: مَا شِئْتَ (تُسْمَعْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُقْبَلْ قَوْلُكَ، أَوْ قُلْ مَا أُلْهِمُكَ مِنَ الثَّنَاءِ لِتُسْمَعَ، أَيْ: تُجَابَ (وَاشْفَعْ) أَيْ: فِيمَنْ شِئْتَ (تُشَفَّعْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: تُقْبَلْ شَفَاعَتُكَ (وَسَلْ) أَيْ: مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَزِيدِ (تُعْطَهْ) بِهَاءِ السَّكْتِ، فِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِيرِ، أَيْ: تُعْطَ مَا تَسْأَلُ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يُلْهِمُنِيهِ حِينَئِذٍ وَلَا أَدْرِيهِ الْآنَ (ثُمَّ أَشْفَعُ) ، قَالَ الْقَاضِي: وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ابْتَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سُجُودِهِ وَحَمْدِهِ وَالْإِذْنِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بِقَوْلِهِ: أُمَّتِي (فَيَحُدُّ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، أَيْ: فَيُعَيِّنُ (لِي حَدًّا) : وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ، أَيْ: مِقْدَارًا مُعَيَّنًا فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِي فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الشَّفَاعَةِ حَدًّا أَقِفُ عِنْدَهُ، فَلَا أَتَعَدَّاهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute