شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجَمَاعَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجُمُعَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَوَاتِ، وَمِثْلُهُ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ فِيمَنْ زَنَى، وَعَلَى هَذَا لِيُرِيَهُ عُلُوَّ الشَّفَاعَةِ فِي عِظَمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ، (فَأَخْرُجُ) أَيْ: مِنْ دَارِ رَبِّي (فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: دَلَّ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَشْفِعِينَ هُمُ الَّذِينَ حُبِسُوا فِي الْمَوْقِفِ وَهَمُّوا وَحَزِنُوا لِذَلِكَ، فَطَلَبُوا أَنْ يُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِيهَا فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّ الْمُؤْمِنِينَ صَارُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً سَارَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَفِرْقَةً حُبِسُوا فِي الْمَحْشَرِ وَاسْتَشْفَعُوا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَلَّصَهُمْ مِمَّا فِيهِ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي شَفَاعَةِ الدَّاخِلِينَ فِي النَّارِ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَيَحُدُّ لِي حَدًّا) إِلَى آخِرِهِ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ وَهُوَ مِنْ حِلْيَةِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَانُونًا فِي فُتُوحِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ هُودٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِصَارِ. قُلْتُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى خَلَاصِهَا ; لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهَا خَلَاصُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى بِالْأَوْلَى، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُرَادَ بِالنَّارِ الْحَبْسُ وَالْكُرْبَةُ، وَمَا كَانُوا بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَدُنُوِّ الشَّمْسِ إِلَى رُءُوسِهِمْ وَحَرِّهَا وَإِلْجَامِهِمُ الْعَرَقَ، وَبِالْخُرُوجِ الْخَلَاصَ مِنْهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا لَكِنَّهُ إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ أَقْرَبُ، وَإِلَى أَصْلِ الْقَضِيَّةِ أَنْسَبُ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَاللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ عَلَى مَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَمَحَطُّ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ هِيَ الْخَلَاصُ مِنَ الْحَبْسِ وَالْقِيَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمُحَاسَبَةِ لِلْأَنَامِ، وَأَمَّا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ وَالْفُقَرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ شَفَاعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ، وَإِدْخَالِ بَعْضِهِمُ الْجَنَّةَ وَلَوِ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَفِي تَخْفِيفِ عَذَابِ بَعْضِهِمْ، وَفِي تَرَقِّي دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَرَّاتٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يَنْقَسِمُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُصَاةِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَكُونُ الشَّفَاعَةُ أَقْسَامًا: أَوَّلُهَا لِلْإِرَاحَةِ مِنَ الْمَوْقِفِ، وَثَانِيهَا: لِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثَالِثُهَا: عِنْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَرَابِعُهَا: لِلْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْقِسْمَيْنِ وَطَوَى الْآخَرِينَ مِنَ الْبَيِّنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(ثُمَّ أَعُودُ) أَيْ: أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي (الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ) أَيْ: فِي دُخُولِهَا (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ (فَإِذَا رَأَيْتُهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَكَانَ، أَوْ رَأَيْتُ رَبِّي مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَكَانِ، وَعَنْ سَائِرِ صِفَاتِ الْحَدَثَانِ (وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي) أَيْ: فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ (ثُمَّ يَقُولُ) : رَدًّا لِي إِلَى حَالِ الْبَقَاءِ (ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ) . قَالَ: (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ) قَالَ (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ) أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (إِلَّا مَنْ قَدْ حَبَسَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute