تَعُودَ وَلَا تَسْأَلَ غَيْرَهُ، وَأَنْتَ لَا تَفِي بِذَلِكَ، فَمَا الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ؟ وَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ، وَالْمُبْتَغَى مِنْهُ التَّوْفِيقُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَرَمِهِ وَبِرِّهِ بِعِبَادِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةَ الْمُسْتَعْطِفِ الْبَاعِثِ سَائِلَهُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ. قَالَ: وَفِي كِتَابِ (الْمَصَابِيحِ) مَا يَصْرِينِي مِنْكَ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ مَا يَصْرِينِي مِنِّي، كَذَا رَوَاهُ الْمُتْقِنُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقَلْبِ ; فَأَصْلُهُ مَا يَصْرِيكَ مِنِّي، وَقَلَبَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْقَلْبُ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، ذَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَا يَصْرِينِي مِنْكَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ مَا يَصْرِيكَ مِنِّي. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنْكَرَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَأَنَّ السَّائِلَ مَتَى انْقَطَعَ عَنِ الْمَسْئُولِ، انْقَطَعَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُرْضِيكَ وَيَقْطَعُ السُّؤَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ (أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا) أَيْ: قَدْرَهَا (وَمِثْلَهَا مَعَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي) أَيْ: أَتُحِلُّنِي مَحَلَّ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ، (وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ؟ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالشَّيْءِ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ إِنْزَالُ الْهَوَانِ عَلَيْهِ، وَإِحْلَالُهُ إِيَّاهُ مَحَلَّ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: هَذَا وَارِدٌ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا الْكَلَامُ صَادِرٌ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا نَالَ مِنَ السُّرُورِ بُلُوغَ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ ; فَلَمْ يَضْبُطْ لِسَانَهُ دَهْشَةً وَفَرَحًا، عَلَى عَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا مُخَاطَبَةَ الْمَخْلُوقِ، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ التَّوْبَةِ، قَوْلُ الرَّجُلِ عِنْدَ وِجْدَانِ زَادِهِ مَعَ رَاحِلَتِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ انْتَهَى.
وَتَوْضِيحُهُ، مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قِيلَ: صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ، وَاسْتِوَاءِ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ، وَمَا يَجُوزُ؟ قُلْتُ: مَثَابَةُ هَذَا الْعَالِمِ مَثَابَةُ الْعَالِمِ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفَرَحُ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ ; فَيَزِلُّ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، كَمَا أَخْطَأَ فِي الْقَوْلِ مَنْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَمَا وَجَدَهَا وَأَخَذَ بِخِطَامِهَا قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. (فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ (تَسْأَلُونِي) : بِالنُّونِ وَتَخْفِيفٍ (مِمَّ أَضْحَكُ) ؟ أَيْ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَضْحَكُ؟ (فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ لَهُ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ؟ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّحِكُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ فِي الْمَعْنَى ; وَذَلِكَ أَنَّ الضَّحِكَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُحْمَلُ عَلَى كَمَالِ الرِّضَا عَنِ الْعَبْدِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَرْحَمَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا ضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْجَابًا وَسُرُورًا بِمَا رَأَى مِنْ كَمَالِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ وَكَمَالِ الرِّضَا عَنْهُ، وَأَمَّا ضَحِكُ ابْنِ مَسْعُودٍ ; فَكَانَ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَاحَظَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلضَّحِكَ، لَا أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ وَحِكَايَةٍ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ مِنْ قَوْلٍ عَجِيبٍ، أَوْ فِعْلٍ غَرِيبٍ. (فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَدِيرٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ اسْتَدْرَكَهُ؟ قُلْتُ: عَنْ مُقَدَّرٍ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لَهُ: أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، فَاسْتَبْعَدَهُ الْعَبْدُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: نَعَمْ، كُنْتَ لَسْتَ أَهْلًا لَهُ، لَكِنِّي أَجْعَلُكَ أَهْلًا لَهَا، وَأُعْطِيكَ مَا اسْتَبْعَدْتَهُ ; لِأَنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَدِيرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute