للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ يَسَعُهُ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ جِيءَ بِهَا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَطِيطَ الْكُرْسِيِّ لِلضِّيقِ بِسَبَبِ تَشْبِيهِهِ بِالرَّحْلِ فِي الْأَطِيطِ (وَيُجَاءُ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) أَيْ: تَحْضُرُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ (فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ) : بِرَفْعِهِ وَنَصْبِ أَوَّلَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِعَكْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: ٢٦] (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (اكْسُوا) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ، أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْ: أَلْبِسُوا (خَلِيلِي ; فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِيَاطِ الْجَنَّةِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَيْطَةٍ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ الْمُلَاءَةُ الرَّقِيقَةُ اللَّيِّنَةُ مِنَ الْكَتَّانِ لَا تَكُونُ لِفْقَتَيْنِ، بَلْ تَكُونُ قِطْعَةً وَاحِدَةً، يُؤْتَى بِهِ مِنَ الشَّامِ (ثُمَّ أُكْسَى) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: أُلْبَسُ أَنَا (عَلَى أَثَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: عَقِبَ إِبْرَاهِيمَ وَبَعْدَهُ (ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ) أَيْ: قِيَامَ كَرَامَةٍ (مَقَامًا يَغْبِطُنِي) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: يَتَمَنَّاهُ (الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ) .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَابِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَوَّلًا الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَوَصَفَهُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ ; لِيَكُونَ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ وَقْعًا، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَقُومُ فِيهِ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَحِيَازَتُهُ قَصَبَ السَّبْقِ مِنْ بَيْنِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ، وَكَفَى بِالشَّاهِدِ شَهِيدًا عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ إِذَا ضَرَبَ سُرَادِقَ الْجَلَالِ لِقَضَاءِ شُئُونِ الْعِبَادِ، وَجَمْعِ أَسَاطِينِ دَوْلَتِهِ، وَأَشْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ هُوَ أَوْلَى أُولِي الْقُرْبِ، وَأَمَّا كُسْوَةُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ كُسْوَتَهُ عَلَى كُسْوَةِ مِثْلِ مَنْ يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ ; إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: ١٢٠] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النحل: ١٢٣] الْآيَةَ. " الْكَشَّافِ ": فِي ثُمَّ هَذِهِ مَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلَّ مَا أُولِيَ فِي النِّعْمَةِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلَّتَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّعُوتِ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَا.

وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَضِيلَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِهِ. قُلْتُ: هَذَا غَفْلَةٌ مِنَ الْقَائِلِ عَنْ تَصْرِيحِ قَوْلِهِ: ثُمَّ أُكْسَى عَلَى أَثَرِهِ، قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا جِيءَ بِهِ كَاسِيًا، وَإِنَّمَا كُسِيَ ثَانِيًا لِلْكَرَامَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كُسِيَ لِلْعُرْيِ. أَقُولُ: وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ عُرَاةً، ثُمَّ يُخْلَقُ لَهُمْ أَكْفَانُهُمْ فَيَلْبَسُونَهَا، ثُمَّ يَخْلَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَلِيلُ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ابْتُدِئَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ خُتِمَ بِهِ، وَأُقِيمَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ تَرَقِّيًا عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ جَدَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَتْبُوعَهُ فِي بَعْضِ الْمَقَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ كَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ عُرِّيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، حِينَ أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ فِيمَا ذَكَرْنَا امْتَازَ الْخَلِيلُ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>