مَوْجُودًا عِنْدَهُ وَتَوَصُّلُهُ إِلَيْهِ أَوِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَيْ: تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيِ: الْفَقِيرَ مَالًا أَيْ: تُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ لَفْظَ الْكَسْبِ إِرَادَةَ أَنَّكَ لَنْ تَزَالَ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ كَمَا يَسْعَى غَيْرُكَ فِي طَلَبِ مَالٍ يُنْعِشُهُ اهـ. وَزُبْدَتُهُ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّكَ مِمَّنْ لَا يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الشَّمَائِلِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ، وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ تَطْرَأُ، وَفِيهِ تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مُخَالَفَةٌ مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ، وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ، وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَدَلُّ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فَقْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَرْضِيًّا اخْتِيَارِيًّا لَا مَكْرُوهًا اضْطِرَارِيًّا، وَمَنْشَؤُهُ كَمَالُ الْكَرَمِ وَالسَّخَاوَةِ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ وَالنُّعُوتَ الْمَسْطُورَةَ كَانَتْ لَهُ جِبِلِّيَّةً خَلْقِيَّةً قَبْلَ بَعْثَتِهِ الْبَاعِثَةِ لِتَتْمِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
(ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ) بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ نَوْفَلٍ) أَيِ: ابْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيِّ (ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ) أَيِ: ابْنَةِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، فَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا حَقِيقَةً، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ. (فَقَالَتْ لِي: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) . وَهَذَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِمْ: يَا أَخَا الْعَرَبِ وَقَالَ شَارِحٌ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ) : وَقَدْ كَانَ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى) ؟ قِيلَ: ذَا، زَائِدَةٌ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقِيلَ ذَا: مَوْصُولَةٌ أَيْ: مَا الدِّينُ تَرَاهُ؟ (خَبَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى) أَيْ: بِخَبَرِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَكِ وَأَثَرِهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا) أَيِ: الْمَلَكُ الَّذِي رَأَيْتَهُ (هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ) أَيْ: أَنْزَلَ اللَّهُ (عَلَى مُوسَى) ، قِيلَ: نَامُوسُ الرَّجُلِ صَاحِبُ سِرِّهِ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُسَمُّونَ جِبْرِيلَ بِالنَّامُوسِ، فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّامُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ، وَالْجَاسُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَهُ بِالْوَحْيِ. (يَا لَيْتَنِي) أَيْ: كُنْتُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِيهَا) أَيْ: فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ أَوْ مُدَّةِ الدَّعْوَةِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا (جَذَعًا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَلْدًا شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجَذَعِ مِنَ الْخَيْلِ، وَهُوَ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، فَالْجَذَعُ فِي الْأَصْلِ لِلدَّوَابِّ، وَهُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَنَصْبُهُ إِمَّا بِإِضْمَارِ كُنْتُ أَوْ بِلَيْتَ عَلَى تَأْوِيلِ تَمَنَّيْتُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَالٌ أَيْ: لَيْتَنِي حَاصِلٌ فِيهَا جَذَعًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِي:
يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ: لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَخَبَرُ لَيْتَ قَوْلُهُ: فِيهَا، وَالْعَامِلُ مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: ظَنَّ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ (يَا) الَّتِي يَلِيهَا لَيْتَ حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَائِلَ لَيْتَنِي قَدْ يَكُونُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ مَعَهُ مُنَادَى كَقَوْلِ مَرْيَمَ: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: ٢٣] قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَا رَبِّ أَوْ يَا نَفْسِي أَوْ يَا وَلَدِي أَوْ أَرَادَتْ بِهِ الْخِطَابَ الْعَامَّ الْمَقْصُودَ فِي أَوْهَامِ الْأَفْهَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي ادُّعِيَ فِيهِ حَذْفُهُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ ثُبُوتُهُ كَحَذْفِ الْمُنَادَى قَبْلَ أَمْرٍ أَوْ دُعَاءٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهُ لِكَثْرَةِ ثُبُوتِهِ مِنْهُ، فَمِنْ ثُبُوتِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: ١٢] وَقِيلَ الدُّعَاءُ {يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: ١٣٤] وَمِنْ حَذْفِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ (أَلَا يَا اسْجُدُوا) فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ أَيْ: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ، وَقَبْلَ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute