مُسَلِّمًا لِأَمْرِهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ؛ فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ السُّرُورِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الْحُضُورِ الْحَاصِلِ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ، وَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَتَعَلُّقِهِمْ بِالْخَلْقِ غَفَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُهْلِكُوا هُنَاكَ، (فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أَيْ: وَاقِعِينَ وَسَاقِطِينَ فَوْقَ بَعْضِهِمْ (مِنَ الضَّحِكِ) ، أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِعْجَابِهِمْ بِفِعْلِهِمْ وَتَعَجُّبِهِمْ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ) ، أَيْ: وَأَخْبَرَهَا بِمَا جَرَى (فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا تُسْرِعُ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَإِنَّهَا وُلِدَتْ وَعُمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ (وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا) : هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (حَتَّى أَلْقَتْهُ) أَيْ: طَرَحَتْهُ (عَنْهُ) : فَاطِمَةُ وَأَبْعَدَتْهُ مِنْهُ (وَأَقْبَلَتْ) أَيْ: تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ (تَسُبُّهُمْ) ، أَيْ: تَشْتُمُهُمْ وَتَلْعَنُهُمْ وَهُمْ سَاكِتُونَ عَنْهَا لِصِغَرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَنَّ غَيْرَهَا مَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لِمَا كَانَ عَسَى أَنْ تَثُورَ الْفِتْنَةُ الْمُرْدِيَةُ إِلَى الْقِتَالِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ) أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ مِنْهَا (قَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) . الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَعَلَيْكَ اسْمُ فِعْلٍ فَالْمَعْنَى خُذْهُمْ أَخْذًا شَدِيدًا أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (ثَلَاثًا) . أَيْ: كَرَّرَهُ ثَلَاثًا (وَكَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ (إِذَا دَعَا) أَيِ: اللَّهَ (دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ) أَيْ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ (سَأَلَ ثَلَاثًا) : فَقِيلَ هَذَا تَأْكِيدٌ لِدَعَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لَهُ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى ظَهْرِهِ؟ أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: بِأَنْ لَيْسَ هَذَا بِنَجِسٍ، لِأَنَّ الْفَرْثَ وَرُطُوبَةَ الْبَدَنِ طَاهِرَانِ، وَإِنَّمَا النَّجِسُ الدَّمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا السَّلَا يَتَضَمَّنُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الدَّمِ فِي الْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَةُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ. قُلْتُ: يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مَذْبُوحَةً وَإِلَّا فَمَيْتَةٌ نَجِسَةٌ اتِّفَاقًا. وَكَانَ النَّوَوِيُّ غَفَلَ عَنِ التَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ بِذِكْرِ الدَّمِ، حَتَّى تَعَلَّقَ بِأَنَّ السَّلَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الدَّمِ غَالِبًا. ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُودِهِ اسْتِصْحَابًا لِلطَّهَارَةِ. قُلْتُ: وَرَدَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ النَّجَاسَةِ لَا تَصِحُّ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: الصَّوَابُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قِيلَ: كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَذَبِيحَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَلَمْ تَكُنْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا كَالْخَمْرِ كَانَتْ تُصِيبُ ثِيَابَهُمْ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ ثَبَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَزِيدًا لِلشَّكْوَى، وَإِظْهَارًا لِمَا صَنَعَ أَعْدَاءُ اللَّهِ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْخُذَهُمْ أَخْذًا وَبِيلًا، وَلِذَا كَرَّرَ الدُّعَاءَ ثَلَاثًا:
(اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ) أَيْ: خُصُوصًا، وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ الْجَاهِلِيُّ الْمَعْرُوفُ، كَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، فَكُنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا جَهْلٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكُنْيَةُ، قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَقَطَعَ رَأْسَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بَدْرٍ. (وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ) : جَاهِلِيٌّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا (وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ) ، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، جَاهِلِيٌّ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا (وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ) ، أَيِ: ابْنِ رَبِيعَةَ، جَاهِلِيٌّ قُتِلَ بِبَدْرٍ مُشْرِكًا (وَأُمَيَّةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (بْنِ خَلَفٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا، وَأَمَّا أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، (وَعُقْبَةَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ (وَعُمَارَةَ) : بِضَمٍّ فَتَخْفِيفٍ (بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ) أَيْ: أَبْصَرْتُ الْمَذْكُورِينَ (صَرْعَى) : هَلْكَى، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: مَصْرُوعِينَ حِينَ (يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُرُّوا (إِلَى الْقَلِيبِ) : وَهُوَ الْبِئْرُ قَبْلَ أَنْ تُطْوَى (قَلِيبِ بَدْرٍ) ، بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ، ثُمَّ بَدْرٌ اسْمُ مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَدِ اسْتَشْكَلَ عَدُّ عُمَارَةَ فِي الْمَذْكُورِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ بِبَدْرٍ، بَلْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي أَنَّهُ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِنَّمَا قُتِلَ صَبْرًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا عَنْ بَدْرٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَمْ يُطْرَحْ فِي الْقَلِيبِ كَمَا هُوَ بَلْ مُقَطَّعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute